روى ابنُ الجوزيِّ في كتابه المنتظم في تاريخِ الأُمَمِ والمُلوك:
بينما الحُجّاجُ يطُوفون بالكعبةِ ويغرفُون الماءَ من بئرِ زمزمٍ، إذ قامَ أعرابيٌّ فحسَرَ عن ثوبه، ثمّ بالَ في البئرِ والنّاسُ ينظُرون!
فما كانَ منهم إلا أن انهَالُوا عليه بالضّربِ حتى كادَ أن يموت، فخلّصه حُرّاسُ الحَرَمِ منهم، وجاؤوا به إلى أمير مكّة!
فقال له: قبّحَكَ الله، لِمَ فعلتَ هذا؟
فقال: حتى يعرفني النّاسُ فيقولون هذا الذي بالَ في بئرِ زمزم!
أحياناً يشذُّ بعض النَّاس عن جادة الصَّواب من باب خالف تُعرف، فالسَّعيُ إلى الشُّهرة بأيِّ ثمنٍ مرضٌ لن تفهمه إلا إذا ابتلاكَ اللهُ به، عافانا اللهُ وعافاكَ!
ثمة نساء ما كنا لنعرفهن لولا أنهُنَّ تعرّينَ! ليس من اليسير أن تصبح المغنية أمَّ كلثومٍ أو فيروز، ولكن ما أسهل أن تغني بجسدها، في زمن التفاهة الذي يسمعُ فيه النَّاس بعيونهم، حتى تصبح من رائدات الفن!
والفنُّ كغيره من مجالات الحياة له قمةٌ وقاع!
ولكل منهما يُشار بالبنان، وجبرَ الله مُصاب الذين في المنتصف!
وثمة رجال دين ما كنا لنسمع بهم لولا فتاواهم الشاذة، ليس من اليسير أن تنبري لشرح البخاريِّ كابنِ حجرٍ!
وحتى إن انبريتَ لتفعلَ، لربما لن تجدَ ما تضيفه، هذا أمر أتعب الجهابذة، وحين سُئل الشنقيطي: لمَ لا تشرح صحيح البخاريّ؟
قال: لا هجرة بعد الفتح!
أي أنَّ بعد فتح الباري لابنِ حجر، كل المحاولات ستأتي ناقصة!
ولكن ما أسهل أن تُشكِّكَ بصحيح البخاريِّ، حتى تُفتح لكَ القنوات، وتُستضاف تحت اسم المُفكِّر الإسلاميِّ!
هذه هي القاعدة: إذا كنتَ في المنتصف، وأعياك الصعود إلى القمة، اِقفِزْ إلى القاع!
في زمنٍ صارَتْ فيه كلمة الحقِّ مكلفة، والجِهاد يتيم، وعلى قول القائل: ما انسجنتُ ولكني رأيتُ من انسجن!
من العسير أن يصبح الفقيه العزَّ ابن عبد السَّلام!
وعبد اللهِ بن المبارك حين أرسلَ للفُضيل بن عياض:
يا عابدَ الحَرَمينِ لوْ أبصرْتَنا
لَعلمْتَ أنّك في العبادةِ تَلْعبُ
مَنْ كان يَخْضِبُ خدَّهُ بدموعِهِ
فَنُحُورُنا بِدِمَائِنا تَتَخَضَّبُ
إنما أرسلها له من ساحات المعارك، ومن تحت ظلال السُّيوف!
وحين رضينا ألا تتخضّب نحور العلماء بدمائهم، وإنها لبركةً أن يكونوا عُبَّاداً، ويكفون النَّاس شرَّهم!
لم يرضَ بعض الدخلاء على العلم بهذا، فقاموا كالمهرجين، يعمدون إلى المجاهدين، زمزم هذه الأُمة، يُلقون قذارتهم في مائهم!
كلُّ الذين وقعوا في المجاهدين، كلهم بلا استثناء، ليس لهم رصيد علمٍ، ولم يُضيفوا للأمة شيئاً، هذا أمر عسير، ولكن من السهل جداً أن تذمَّ المجاهدين لتصبح ترند!
المهرِّج هشام البيلي ما عرفناه إلا يوم قوله: يا أبا عُبيدة جاهد بالسُّنن!
والتافه لافي العازمي من كان ليسمع به لولا قوله عن المجاهدين كالجرذان!
وإنه والله، لشسع نعل أحد مجاهدي كتائب القسَّام بلحيته، وبرؤوس مُشغّيله!
والقائمة طويلة، والقاع مزدحم، وبين ساقط سابقٍ، وساقط لاحق، فإنَّ الثابت الذي لن يتغير أنه لن يضرهم من خذلهم!
وعند الله موعدنا!