سوريا، الأرض التي ذاقت الأرق طويلًا، وامتد فيها الوجع لأكثر من عقد، لم تنكسر رغم محاولات النسيان ابتلاعها، ولم ينطفئ الأمل في احتضانها. شاء القدر أن تنفض عنها غبار الحرب، وتستعيد سيرتها الأولى، تلك التي نحبّها وتحبّنا، وتفتح ذراعيها لنا كما تفعل زهرة عباد الشمس حين تصغي لنداء الحياة.
نحبّها حبًا حقيقيًا، لا يُحرّكه بعد المسافة، ولا يؤججه المنع، وتحبّنا حبًا أصيلًا، لا يُشعله نزيف الدم، بل يرويه الطهر. وبعد شهيقٍ طويلٍ خنق الأنفاس، آن لها أن تعود كما عهدناها: أرضًا ولّادة. تستبدل رمادها بتراب خصب، وتُثمر في كل حين، في شتى الاتجاهات: في العلم، والابتكار، والريادة، والفن، والأدب. تحوّل العجز إلى قوة، والجرح إلى منبتِ ازدهار، والرماد إلى غصنٍ أخضر، جذوره في الأرض، وظلاله تعانق السماء.
تعود أزقتها تنبض بالحياة، من الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق، وتخرج من صمتها الطويل، الذي لم يكن يهمس إلا بالموت، إلى فضاءٍ يعجّ بالحياة. تتبدّد دموع المغادرين، ليهطل شوق العائدين من عيونهم خرائط حبّ وحنين. وهناك، في أخاديد الجراح العميقة، تتحرّر كل الحكايات: الصبر بعد الفقد، والوصل بعد الانقطاع، والأمل بعد الخيبة، واللقاء بعد انتظار.
هؤلاء أبناء الأرض، المنهكون الواقعيون الحالمون، لا ينتظرون المعجزات، بل يصنعونها. يصنعونها في الجامعات، في تخصصات تمتد من الطبّ الذي يضمد الجراح، إلى الهندسة التي تعيد رسم البنى، إلى العلوم الإنسانية والإدارية التي تنظم الفكر وتؤطّر الفعل.
يصنعونها في المهن اليومية، في طرْق النجّار، وغرْز الإبرة، وانحناءة الحدّاد، وفي دقّة التاجر الذي يعرف كيف يوازن بين الربح والضمير. يصنعونها في المشاريع الصغيرة التي تنضج اقتصادًا متينًا على نار هادئة، وتنعش روح ريادة الأعمال، وتزرع مفاهيم الاكتفاء والإبداع جنبًا إلى جنب.
يصنعونها في البرامج التدريبية التي تنبت مهارات، وتصقل الإنسان، وتعدّه ليكون مواطنًا عالميًا، قادرًا على التنافس، واثقًا بذاته، مؤمنًا بأن له مكانًا في كل مقام. في المساحات الرقمية التي تضج بالأفكار، تُرفع فيها رايات الابتكار، ويُعاد فيها بناء المجتمع على أسس فاعلة. وفي المبادرات التطوعية التي تردم الفجوات، من الاستجابة الإنسانية العاجلة، إلى المشاريع التنموية العميقة، التي تمسّ ملفات التعليم والصحة والإعمار.
يصنعونها في نساءٍ سورياتٍ يصعدْن درجات الإنجاز، ويتجاوزْن التحديات، ويتسلّقن جدران التهميش والغياب بثباتٍ وإصرار. وفي فرقٍ طلابية تقف على أعتاب المختبرات وأروقة الاختراعات، تبحث عن الضوء، وتصنع حلولًا تحاكي الواقع وتصوغ المستقبل.
هؤلاء هم الأبناء الذين، حين صفعتهم البلاد، لم يتخلّوا عنها، وحين ضاقت عليهم بما رحبت، لم يقطعوا جذورهم، وإن اتّسع لهم المنفى حتى ظنوه وطنًا، لم يستبدلوا بها غيرها.
واليوم، تعيد سوريا تشكيل نفسها، لا على أنقاض ما كان، بل على أمل ما سيكون، بخُطى أمّ تعرف أبناءها؛ محمّلين بالمعرفة، ببذور جديدة، ومفاتيح تفتح أبوابًا لحياة تُبنى من جديد.
سوريا، التي خُيّل إلينا يومًا أنها انطفأت، هي اليوم أرضٌ ولّادة تزهر فوق الرماد. وهي الأحقّ بثمار أبنائها من علمٍ وعمل، والأجدر بأن تُزهر بهم أثرًا لا يضيع، على ترابٍ ارتوى بدماء أبطالها… فتكون الحياة.