العمارة الشامية.. بيوت تتنفس الجمال وتروي حكايات الزمان
أبريل 25, 2025
101
العمارة الشامية.. بيوت تتنفس الجمال وتروي حكايات الزمان
عصام يزبك
ليست الجدران وحدها من تبني البيت الشامي، بل الذاكرة، والحرفة، وعبق الياسمين المتسلّق على الشرفات. في دمشق القديمة، حيث الحارات تنام على صوت الحكواتي، والسماء تقترب من النوافذ الخشبية المزخرفة، تتجلى العمارة الشامية كأنها مرآة لروح المدينة.
حين يصبح الفناء قلبًا نابضًا للبيت الشامي، لا يستقبلك صالون عصري أو مدخل فاخر، بل تُقابلك “الليوان”، تلك الساحة الداخلية التي تحيط بها الغرف من كل الجهات، تتوسطها نافورة الماء المعروفة بـ”البحرة”، تُغنيك عن موسيقى العصر بصوت خريرها العذب. وتكتمل الصورة بأشجار النارنج والياسمين التي تفوح منها ذكريات الطفولة، وصوت الجدة الذي لا يزال عالقًا في الزوايا.
الميزة الأهم في هذه العمارة هي خصوصيتها الذكية. فالجمال فيها موجّه إلى الداخل، حيث تعيش العائلة في وئام مع الطبيعة، بعيدًا عن أعين الغرباء. النوافذ الصغيرة المطلة على الشارع تكاد تكون معدومة، بينما النوافذ الحقيقية تفتح على الفناء الداخلي، وكأنها تقول لنا إن الراحة لا تأتي من الخارج، بل من الداخل.
السقف لا يُترك عاريًا، بل يُزخرف كأنه سماء ثانية، مزدانة بأشكال هندسية متداخلة، وألوان تنبض بالحياة. الجدران تُحاكي فن الأرابيسك، والمشربيات الخشبية تبهر العين بدقتها وجمالها. هذه ليست تفاصيل ترفيهية، بل لغة صامتة تعبّر عن هوية دمشق وأهلها، عن ذوقهم ورقيّ إحساسهم بالجمال.
تصميم البيت الشامي، الذي يعود لقرون مضت، سبق مفاهيم “الاستدامة البيئية” الحديثة. البحرة تُبرّد الهواء، والأشجار تلطّف الأجواء، والجدران السميكة تحفظ الحرارة في الشتاء. كل عنصر فيه مدروس بعناية، ومبني على تجربة شعبية طويلة تراكمت بفعل التعايش مع المناخ والثقافة.
في السنوات الأخيرة، تآكل هذا الجمال تحت وطأة الإهمال والخراب وتغيّر أنماط السكن. كثير من البيوت تحوّلت إلى أطلال، وأخرى بيعت بأثمان بخسة، بعد أن هجرتها العائلات إما قسرًا أو اضطرارًا. ومع كل باب يُغلق، تُطوى صفحة من تاريخ العمارة الشامية.
البيت الدمشقي ليس مجرد مساحة للسكن، بل حكاية عائلة، وقصيدة مدينة، ودرس في فن العيش. الحفاظ عليه ليس رفاهية، بل مسؤولية تجاه جيلٍ لم يعرف دمشق إلا عبر الصور. وربما قد آن الأوان لنمنحه الفرصة ليعيشها من جديد.. بيتًا بيتًا.