Blog
في طريقي إلى مخزن مكتبة الشبكة في إسطنبول كنت أسير في شارع يافوز سليم، وهو شارع تصعد فيه طريقًا مرتفعًا ومزدحمًا بالمحلات، وفي كل مرّة كنت أَمُرُّ به أتذكَّر ما درستُه في المدارس المصرية عن السلطان العثماني سليم، وعن أخذه العمّال والحرفيين المميزين إلى إسطنبول، وأتذكَّر معركة مرج دابق ومعركة الريدانية التي قضى فيها سليم على دولة المماليك.
بين طومان باي وسليم الأول.. الرواية العثمانية والرواية القومية المصرية
تذكَّرتُ ما أثاره مسلسل “ممالك النار”، الذي بلغت ميزانيته 40 مليون دولار أمريكي، إذ يوثِّق المسلسل الحقبة الأخيرة من دولة المماليك وسقوطها على أيدي العثمانيين في بدايات القرن السادس عشر، ويتبنى المسلسل رواية قومية مصرية تدافع عن المماليك وتتضامن مع آخر السلاطين، طومان باي، الحاكم المملوكي. ويحوّله الممثل خالد النبوي الذي قام بدوره إلى بطل يستحقّ أن تُروى حياته ويُتعاطف معه، إذ يقول النبوي في أحد الحوارات: “لقد هُزم طومان باي حيًّا وانتصر ميتًا”! وطبعًا حرب المسلسلات بين الرواية التركية التي تمجّد في رموز عثمانية مثل السلطان عبد الحميد ومسلسل أرطغرل وغيرهما، مع نجاحها الشديد يمكن فهْم مسلسل “ممالك النار” أنه ردّ مصريّ قوميّ على تركيا في ظل مناكفة سياسية بين المشاريع، فهو محاولة لتمجيد المماليك وإسقاط القصة سياسيًّا على الوقت الراهن.
وهذا النهج في تمجيد المماليك وجعلهم ممثلين لهوية مصرية ضاربة في القِدَم يعبّر عنه عنوان كتاب حلمي النمنم “أيام سليم الأول في مصر.. جذور الإرهاب”. تصوِّر هذه السردية المماليك كأنهم حُكّام عادلون ومن أبناء الشعب المصري، وتصوِّر السلطان سليم باعتباره غزوًا وتدميرًا للهوية المصرية الأصيلة وسرقة للعقول المصرية عبر سفر العمّال إلى عاصمة الإمبراطورية في إستانبول. وهذه الرواية القومية لا تستقيم من الناحية التاريخية، لأن المماليك بلغ ظلمهم حدًّا كبيرًا، مما جعل الناس ترحّب بالحكم العثماني. ولم يكن المماليك من مصر أصلًا، بل من آسيا الوسطى. ويمكن التشكيك في ظهور هوية مصرية خالصة في هذه الفترة المبكرة من العصر الحديث، وهناك تصوير أدبيّ وروائيّ لهوية مصرية نقية ضاربة القِدَم من العصر الفرعوني إلى العصر الحديث، فضلًا عن اختزال ثلاثة قرون من الحكم العثماني لمصر في سطر وسطرين في كُتب التاريخ المدرسي، التي تتجاهل تفاصيل تلك الحقبة الطويلة والثرية في تاريخ مصر، وتجعل الفترة العثمانية في تاريخ مصر فترة تخلُّف وجهل وحقبة من الظلام والخمول. وتستكمل الرواية القومية في رسم الأساطير عبر جعل محمد علي شخصية أسطورية انقضت على التراث السابق ولا تستطيع فهم أنه حاكم عثماني.
حكايات القرن السادس عشر
لذلك شدَّني كتاب المؤرخ آلن ميخائيل “ظِلُّ الله.. السلطان سليم والإمبراطورية العثمانية وتشكل العالم الحديث”، ترجمة عبد الرحمن عادل عن دار “مدارات”، فقد عشت بفضل الكتاب في أجواء القرن السادس عشر بين صراعات الأمراء في القصور العثمانية وهجمات الصفويين على تخوم الإمبراطورية الناشئة. كنت أجلس إلى الكتاب في نهاية يومي الحافل بالمهام كأني أدخل آلة الزمن، فأعود إلى عالم القرن السادس عشر بمماليكه في مصر، وأسمع همسات الموريسكيين عند سقوط الأندلس، وأحلام البحارة مع ظهور العالَم الجديد في أمريكا، وحكايات المغامر كريستوفر كولومبوس يقف عند سور غرناطة ويكتشف أمريكا، وانتقال العبيد المسلمين من إفريقيا، وسقوط دولة المماليك، وحكايات الجُزر المهمة مثل البندقية في البحر المتوسط، وهجرات اليهود من إسبانيا إلى الدولة العثمانية، وفي نفس الفترة الزمنية ارتفعت رايات الإصلاح الديني في أوروبا على يد مارتن لوثر وظهور المذهب البروتستانتي.
عوالم منوّعة رسمها المؤرخ آلن ميخائيل بقلمه عبر سرده قصة السلطان سليم، فقد حوّلها إلى رواية متقنة تحكي تاريخ العالم في تلك الفترة، وكانت قراءة شيقة ومتمردة على التاريخ التقليدي تبحث عن المسكوت عنه، خصوصًا أن الترجمة كانت جميلة ومميزة وفصيحة، وقد ينقصها زيادة بعض التعليقات من المترجم على بعض الحوادث، لكنها ترجمة من طراز رفيع ولغة عالية.
من أول منطلقات الكاتب آلن ميخائيل في كتابه تعزيز الحُجَّة القائلة بأنّ العرب، مواطنين ومؤرخين، يتعيَّن عليهم أخذ تاريخ الإمبراطورية العثمانية على محمل الجدّ، لا باعتبارها قوة استعمارية أجنبية، بل البحث عن كيف أثَّر حكمها الذي دام نحو ثلاثمئة عام في العالم العربي، في مناحي الثقافة والسياسة والاقتصاد وما إليها، خصوصًا أن المدارس التاريخية القومية تميل دائمًا إلى غضّ الطرف عن العثمانيين، أو بالأحرى تجاهلهم، معتقدين أن حكمهم لم يكُن له أثر يُذكر في المنطقة، أو أنه كان مجرَّد حكم يعتمد على الخراج، لا يُضيف شيئًا إلى المنطقة.
1517 نقطة تحوُّل في تاريخ العالم
يركز آلن ميخائيل على أن عام 1517 عام فتح العثمانيين، لم يغيّر العالم العربي إلى الأبد فحسب، بل غيّر الإمبراطورية العثمانية كذلك إلى الأبد، فقد تحوّلت مراكز الثقل الديمغرافي والثقافي داخل الإمبراطورية وزاد عدد المسلمين في الإمبراطورية.
يدرس الكتاب حياة سليم منذ ولادته في أماسيه عام 1470، وترقّيه عبر مناصب السلطنة حتى اعتلائه عرشها، ومِن ثَمّ الحروب التي خاضها في فترة حكمه حتى وفاته في عام 1520.
وتوجد أسباب أخرى لتجاهل أثر العثمانيين في تاريخنا كما يوضح ميخائيل، فقد دأبنا على قراءة تاريخ الأعوام الخمسمئة المنصرمة بوصفه حقبة “صعود الغرب”، وهذه مفارقة تاريخية ينخدع بها الأوروبيون والأمريكيون، بل تنخدع بها تركيا نفسها وسائر بلاد الشرق الأوسط. فلم يكن لمفهوم «الغرب» أصل أو وجود بالشكل الذي اتخذه اليوم في القرنين السادس عشر والسابع عشر، إذ صار له نصيب أكبر من حقيقته. فطيلة القرون الأولى من حقبة الحداثة المبكرة كانت أوروبا مجرد ممالك هشة وصغيرة وإمارات ضعيفة تعيش حالة حرب دائمة.
لقد كانت الغلبة والهيمنة في العالم القديم من نصيب الإمبراطوريات الأوراسية، وبخلاف عدد قليل من البؤر الاستيطانية في منطقة البحر الكاريبي ظلَّت الأمريكتان لأهلهما من الشعوب الأصلية. وكان نصيب الإمبراطورية العثمانية من أراضي أوروبا أكبر من الدول الأوروبية نفسها. ولو سألت رجلًا في القرن السابع عشر أن يراهن بكل ماله على تفوُّق الإمبراطورية العثمانية وسيطرتها على العالم بأسره لفعل، أو لربما اختار الصين، ولكنه لم يكُن ليختار قَطُّ أيَّ كيان أوروبي.
ومنذ عصر الثورة الصناعية، وما يُطلَق عليه الأمجاد الأوروبية في القرن التاسع عشر، أُعيدت كتابة هذا التاريخ ليصوِّر زمن كولومبوس على أنه مهد الصعود الأوروبي. وإنّ القول بذلك لا يعدو أن يكون ضربًا من الحماقة والجهل كما يوضح ميخائيل، ذلك أنه يغفل الانقسامات العميقة التي عرفتها أوروبا في فجر تاريخها الحديث، ناهيك بحجب حقيقة أخرى، إذ ظلَّت الإمبراطورية العثمانية -قبل أن تكتسب لقبها المهين “رجل أوروبا المريض” في القرن التاسع عشر- مرهوبة الجانب قرونًا طويلة.
يوضح لنا الكتاب أنّ مِن أبرز الخصائص التي وسمت الإمبراطورية العثمانية عبر تاريخها، جمعها بين طول الأمد والنهوض بدورٍ مركزيٍّ في الشؤون الدولية. ثم كان أن جرى عليها ما جرى على غيرها من الإمبراطوريات، إذ ولى زمنها، ومضت في طريق الاندثار بعد أن دامت وهيمنت ما يزيد على ستة قرون.
يرسم آلن ميخائيل مسرح الأحداث في الكتاب، وينبّهنا إلى أنّ الإمبراطورية العثمانية كانت على مدار نصف قرن قبل عام 1492، ولقرون لاحقة، هي الدولة الأقوى على وجه الأرض، فهي أكبر إمبراطورية في البحر المتوسط منذ روما القديمة، والأطول عمرًا في تاريخ الإسلام كله. ولقد سيطر العثمانيون في العقود التي سبقت عام 1500 وتلته على أقاليم وحكموا عددًا أكبر من الناس مقارنة بأيّ قوى عالمية أخرى. وأحكم العثمانيون سيطرتهم على طرق التجارة في الشرق، واجتمعت لهم قوة عسكرية غير مسبوقة في البر والبحر، فتلاشى وجود البرتغاليين والإسبان في البحر المتوسط.
الحرملك مدرسة.. بعيدًا عن خيالات الاستشراق!
كان الحرملك أفضل محضنة لسلاطين المستقبل، وينبّهنا آلن ميخائيل وهو يدرس طفولة وتربية سليم في القصر العثماني أنه خلال السنوات الأولى التي قضاها سليم النابه في أماسيه تعلَّم التركية العثمانية، وهي لغة الإدارة في الدولة. كما تعلَّم العربية، وهي لغة القرآن والعلوم الشرعية. والفارسية، وهي لغة الأدب والشعر. كما اشتمل تعليم الأمير سليم على دروس في الرماية والطب والصيد وكتابة الفرمانات.
وعلَّمته والدته جلبهار وخَدَمُها الصلاة وكيفية انتقاء ملابسه، وأدّبته تأديب من يُراد له أن يكون في المستقبل سلطانًا. وكان الحرملك في الواقع -خلافًا لتصورات عامة الناس الذين اتخذوه موضوعًا للخيالات والأساطير، فضلًا عن الترف والأبهة- بمنزلة مدرسة للأمراء، لا مجرد سرايا لسكن الجواري والمحظيات.
ويوضح ميخائيل وهو يرسم صورة سليم ما ذُكِر في بعض الروايات بأن محمدًا الفاتح كان موضع حُبّ سليم وإجلاله أكثر من أبيه بايزيد، إذ كان الفاتح عنده هو الحاكم القدوة الذي سيسعى إلى تمثُّل أسلوبه في الحكم. وكان الفاتح قد أنفق أكثر شبابه في الحروب، فكان يسرُّه دومًا أن يسمع صهيل الخيول العاديات خارج خيمته. ويدرس آلن ميخائيل حكم سليم وأمه لطرابزون، فقد عمل سليم وأمه جلبهار بدأب على إدماج طرابزون إدماجًا شاملًا في نظام السلطنة.
نجح سليم وأمه، في فترة ما بين توليه حكم طرابزون في عام 1487 حتى وُلد له سليمان بعد سبع سنوات، في توطيد سلطانهما على الحد الشرقي للسلطنة، وتبيَّن لجمهور أهل المدينة من المسيحيين اليونان أن حياتهم تحت حكم آل عثمان المسلمين صارت أفضل مما كانت عليه في عهد الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية. وكان سليم وجلبهار قد حوّلا طرابزون -في غضون اثنتَي عشرة سنة- إلى أحد الحصون المنيعة على الحدود الشرقية للسلطنة العثمانية.
يستمرُّ الكتاب في رسم ملامح حياة السلطان سليم ودوره في السياسة الدولية في تلك المرحلة المهمة، وهذا ما سنكمله في الحلقة القادمة.



