سياسة
تمرّ حركة فتح منذ زمن بمنعطف تاريخي حرج ودقيق فرضته تحديات الداخل وضغوط الخارج، بعد مسيرة حافلة بالإنجازات. ما يستدعي مراجعة شاملة وإعادة تقييم حقيقية لكل ما يتصل ببنيتها القيادية والأطر التنظيمية ومستقبلها التنظيمي. في ظل تصاعد الحديث عن المصالحة الداخلية وعودة الطموحات الفردية للتموضع في الصفوف الأولى وتصدر المشهد القيادي. ومن هنا برزت أزمة القيادة إلى السطح، حيث أننا أمام معضلة أعمق تتعلق في فقدان عنصر الكفاءة القيادية لصالح تغليب النزعات الفردية، بدلاً من روح المسؤولية الوطنية. فالكل يرى أنه يستحق أن يتقدم الصفوف، حتى من لا يمتلك من المؤهلات إلا الطموح الشخصي المجرد من أي كفاءة حقيقية، حيث تتعلق المعضلة بمدى أهلية هؤلاء لقيادة المشروع الوطني، وكأن الشعارات والمظاهر الفارغة باتت بديلاً عن الإنجاز الفعلي. فالأزمة الحقيقية ليست فقط في الأفراد، بل في طبيعة النظام التنظيمي الذي سمح بتآكل معايير الكفاءة وتراجع ثقافة الشفافية والمحاسبة. فقد تحولت بعض الأطر إلى سلالم لتمرير المصالح الضيقة بدلاً من أن تكون ميادين لتأهيل القادة الحقيقيين.
إن جوهر الإشكالية الذي تعاني منه حركة فتح في أن السواد الأعظم من أبنائها وفي كل المستويات الإدارية والتنظيمية يرون في أنفسهم الأحقية بالتقدم إلى مقدمة الصفوف والمشاركة في مختلف الاستحقاقات، حتى وإن خالفت تخصصاتهم أو تجاوزت قدراتهم. ولا عجب أن ترى الواحد منهم يجمع بين خمس مهام ومع ذلك يسعى للتنافس على أي استحقاق أخر جديد وإن كان هذا الاستحقاق لا يليق به، وكأن نساء الفتح عجزن أن يلدن غيره. ومن خلال المراقبة الدقيقة للواقع الداخلي للحركة يُظهر أن كثيراً من هؤلاء يفتقرون إلى أدنى مقومات القيادة، سواء من حيث الرؤية التنظيمية أو القدرة على إدارة الخلافات أو تحمل أعباء المرحلة. فهم يتحركون بدوافع ذاتية ومصالح ضيقة. ولا يملكون من مقومات القيادة إلا الطموح الشخصي. والأدهى والأخطر من ذلك أن جزءاً كبيراً منهم لا يسعى للبناء أو التوحيد، بل ينشط في محاولة إقصاء الآخرين بأي طريقة كانت، اعتقاداً أن غياب الكفاءات الحقيقية وغياب المنافسين وحده يفتح له طريق الزعامة، وكأن البقاء لا يتم إلا عبر تصفية الآخرين لا عبر إثبات الجدارة والقدرة. وهذا طرح غير مشروع ولا يعبر عن تنافس إيجابي شريف، بل عن رغبة مريضة في إقصاء الجميع بأي وسيلة كانت. إن هذه الرغبة الجامحة وهذا السلوك لا يهدد فقط وحدة الحركة بل يكرّس ثقافة الإقصاء والاستئثار، وهو ما يعيد إنتاج الأزمات بدلاً من حلها. فالطامحون بلا مشروع، والمنتقدون بلا رؤية، وهم أول من يتسابقون لتفخيخ المسارات الداخلية وتخريب أي محاولة جادة لاستنهاض فتح من جديد. والمؤسف أن بعض القيادات الكبرى، بدلًا من أن تقوم بدور الحكم العادل تجد نفسها عن قصد أو عن غير قصد شريكة في هذا العبث، إما عبر التواطؤ أو الصمت أو حتى عبر تضخيم الأزمات لحسابات شخصية ضيقة ومواقع تنظيمية، دون الالتفات إلى المخاطر الوجودية التي تواجه الحركة والقضية الوطنية برمتها. فمن يتابع المشهد الداخلي يدرك أن الرغبة في الإقصاء باتت ثقافة راسخة لدى الطامحين، أكثر مما هي رغبة في خدمة الحركة أو تطوير أدواتها. فالكل يتمنى إقصاء الكل، لا عن قناعة بخطأ الآخرين بل طمعاً بمكانة شخصية، ما يفضح فقراً في الرؤية وغياباً لمفهوم التنافس الشريف الذي يفترض أن يكون قائماً على الإنجاز وليس على المؤامرات الداخلية.
في ظل هذا الواقع يصبح من الطبيعي أن تتعثر المصالحة الداخلية، ويصبح الحديث عن إصلاح البيت الفتحاوي مجرد شعارات تستهلك في الإعلام دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ العملي. فخطاب رئيس الحركة ورئيس السلطة الفلسطينية في القمة العربية التي شهدتها مصر بالعفو عن المفصولين من الحركة مطلع شهر مارس (2025) ورغم دعمي الكامل لهذه الخطوة التي جاءت متأخرة. الا انه كان من الأولى والاجدر أن يصدر إعلان العفو وقرارات المصالحة الداخلية ضمن مخرجات الدورة الثانية عشر للمجلس الثوري لحركة فتح التي اختتمت اعمالها قبل أيام قليلة لانعقاد القمة العربية، بحيث كانت ستستند الى شرعية داخلية لاحد أهم المؤسسات والأطر التنظيمية الداخلية للحركة مما يعطي للمجلس الثوري هيبة واحترام ويطفى على المصالحة شرعية أوسع ضمن أسس قانونية وتنظيمية عادلة تصون هيبة النظام الأساسي للحركة وتحفظ حقوق من تم فصله ورد اعتبارهم. فهذه الحالة وغيرها من حالات الترهل الإداري والتكلس التنظيمي إن تُركت دون معالجة، فهي لا تهدد فقط وحدة حركة فتح بل تقود إلى تعزيز فقدان الحركة لمصداقيتها أمام جماهيرها، وتكرّس عقلية (الزعامة الفارغة) بدل عقلية (المشروع الوطني). فالحركة التي ينخرها الطموح الشخصي وتفتقد لمعايير اختيار القادة على أساس الكفاءة، تصبح عاجزة عن مواجهة تحديات الاحتلال أو قيادة مرحلة تحرر وطني جديدة.
إن الرهان الحقيقي يجب أن يكون على القدرة والكفاءة وحسن السمعة والالتزام، لا على الولاءات الشخصية وصلة الأرحام والشعوذة، ولا على الإقصاء الأعمى. ومن هنا لا بد من أن يتقدم المشهد الفتحاوي أولئك الذين يملكون القدرة على التجميع، لا التفريق؛ على البناء لا الهدم؛ على تقديم المصلحة العامة لا خدمة الطموحات الذاتية. فحركة فتح لا تحتاج إلى مزيد من المتسلقين، ولا تحتاج مزيداً من المتصارعين على المواقع، بل تحتاج إلى قادة حقيقيين يمتلكون مشروعاً وطنياً واضحاً. قادرين على استنهاض القواعد التنظيمية وإعادة الثقة الجماهيرية. يضعون المصلحة الوطنية فوق الطموحات الشخصية من خلال إعادة الاعتبار لمعايير الكفاءة والنزاهة في التقييم القيادي.
وأمام هذه الحقائق فإما أن تستعيد الحركة بوصلتها، أو تواصل الانحدار نحو صراع مواقع لا يخدم إلا خصومها. فمستقبل حركة فتح، وربما مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني بأكمله، يتوقف اليوم على قدرتها في فرز قادتها الحقيقيين عن الطامحين الفارغين. قيادات تعرف حجم التحديات وتعمل بجد وإخلاص لاستعادة موقع الحركة الطبيعي في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني. ولا سبيل لاستعادة مكانة الحركة إلا بكسر هذه الحلقة المفرغة من الطموحات الأنانية، وإعادة الاعتبار لمبادئ الكفاءة والاستحقاق الحقيقي. فمن أراد أن يقود ويتصدر الصفوف، فليثبت نفسه بالعمل والموقف والرؤية، لا بالشعارات الجوفاء ولا بمحاولات إقصاء الآخرين.
إن حركة بحجم فتح بتاريخها وشهدائها ومسيرتها النضالية الأجدر ألا تقبل أن تتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات الشخصية على حساب قضيتها الوطنية الكبرى. فالأزمة التي تمر بها حركة فتح ليست أزمة أفراد فقط، بل أزمة بنية تنظيمية وفكر قيادي تحتاج إلى تجديد شامل في: القيادة – الخطاب – المؤسسات – القيم والشعارات – التمثيل الاجتماعي. لذلك إنقاذ الحركة يتطلب شجاعة في مواجهة الواقع، والانتقال من إدارة الولاءات إلى بناء المؤسسات وتنمية الكفاءات. ولا يمكن حل أزمة القيادة عبر استبدال الوجوه فقط، بل تحتاج إلى ثورة تنظيمية وفكرية حقيقية، تبدأ بإعادة الاعتبار لمعايير الكفاءة، وتحقيق الشمولية، والانفتاح على كل مكونات المجتمع الفلسطيني، وخاصة النساء والشباب وأصحاب الرأي المستقل. فإما أن تتجدد الحركة بروح العصر، أو تواصل الغرق في مستنقع الطموحات والولاءات الشخصية، بعيداً عن حمل المشروع الوطني على أكتاف القادرين.