مجتمع

سوريا بعد التحرير.. مبادرات مجتمعية تسعى لإعادة بناء المجتمع

أبريل 24, 2025

سوريا بعد التحرير.. مبادرات مجتمعية تسعى لإعادة بناء المجتمع

لم تكن الحرب في سوريا تدميراً للبنية التحتية ومؤسسات الدولة فحسب، بل تسببت أيضاً بتفكك النسيج المجتمعي وتآكل الثقة والعلاقات الإنسانية بين الأفراد. ومع انقشاع غبار المعارك، تتجدد الحياة بإرادة من تبقى من السوريين، لتبدأ معركة جديدة لا تقل أهمية عن الخلاص من نظام الأسد، الذي سقط في الثامن من ديسمبر من العام الماضي، عقب دخول فصائل المعارضة إلى العاصمة السورية دمشق، وفرار الرئيس المخلوع بشار الأسد، بعد أحد عشر يوماً من العمليات العسكرية التي انطلقت في السابع والعشرين من نوفمبر من العام نفسه.

 

 

في أنحاء مختلفة من سوريا، بدأ شباب وشابات بنشر تسجيلات مصورة توثق مبادرات محلية بسيطة أطلقوها في مجالات خدمية وصحية وتعليمية، مصحوبة بأغنية “بالحب بدنا نعمرها” للفنان السوري سمير أكتع، أو بأناشيد وهتافات ثورية راجت خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، في محاولة لبث الروح والحياة من جديد في أرجاء البلاد.

 

 

في هذا التقرير نرصد واقع هذه المبادرات، من حيث أشكالها المتنوعة والتحديات التي تواجهها، ونتوقف عند نماذج واقعية منها، كمبادرة أطلقها مجموعة من الشباب لإزالة رموز النظام السابق من شوارع مدينة حمص، في خطوة رمزية تهدف إلى طيّ صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة قوامها الحرية والعدالة.

 

 

كما نناقش دور هذه الجهود في تعزيز التضامن المجتمعي وتلبية الاحتياجات الأساسية في مجتمعات محلية تفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات، ونحاور أصحاب المبادرات حول دوافعهم وتحدياتهم، ونُسلط الضوء في ختام التقرير على آفاق تطوير هذه المبادرات، ودور الشباب السوري والجهات الداعمة في تحويلها إلى مسارات مستدامة تساهم في إعادة بناء سوريا، بمشاركة الباحثة الاجتماعية السورية التي تتابع هذه الظاهرة عن كثب.

 

 

مبادرات شبابية تنقل رسائل للمجتمع

 

تشكل المبادرات التي أطلقها الشباب السوري بعد التحرير محاولات جادة لتلبية احتياجات أساسية وتعزيز الروح المجتمعية، بل وحتى القيام بعمليات ترميم رمزية لما هدمته سنوات الاستبداد. هذه المبادرات وُلدت من رحم الحاجة ومن إيمان راسخ بأن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يأتي إلا من الداخل، ومن أبناء البلد أنفسهم.

 

 

ورغم بساطتها، لاقت هذه المبادرات تفاعلاً واسعاً من المجتمع السوري، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث نُظر إليها كعلامة على صحوة اجتماعية وإرادة حقيقية للنهوض.

 

 

نزار زين، أحد منسقي مبادرة إزالة رموز الأسد في مدينة حمص، التي انطلقت في الثاني عشر من نيسان الجاري، تحدث لموقع “سطور” عن تجربتهم، موضحاً أن المبادرة بدأت بمجموعة من ثمانية متطوعين ووصلت لاحقاً إلى أربعة عشر مشاركاً، دون أي إطار تنظيمي رسمي، بل بروح من التعاون والأخوّة.

 

 

وأشار زين إلى أن اختيارهم لهذه الخطوة جاء عن قناعة راسخة بأنها تمثل البداية الضرورية لأي تحوّل حقيقي نحو بناء واقع جديد ودولة حرة. فإزالة رموز النظام السابق كانت بنظرهم أكثر من مجرد عمل رمزي؛ بل كانت إعلاناً فعلياً عن بدء مرحلة جديدة. وأكد أن هذه المبادرة لم تكن خياراً بين عدة خيارات، بل الخيار الوحيد الممكن والمُتفق عليه.

 

 

وأضاف أن المبادرة لاقت تفاعلاً إيجابياً واسعاً من الناس، في ظل غياب تام لأي ردود فعل سلبية، ما منح الفريق دافعاً قوياً للاستمرار والانخراط في مبادرات أخرى تصب في خانة بناء مجتمع حر ونظيف يدعم مشروع الدولة الجديدة.

 

 

وبعد سقوط النظام السوري، انتشرت تسجيلات مصوّرة كثيرة توثق مبادرات شبابية متنوعة، شملت حملات لتنظيف الشوارع والمدارس والمستشفيات، وحتى ترميم المعالم الأثرية في مختلف المدن السورية.

 

 

المجتمع السوري يستعيد إيمانه بقدرته على النهوض

 

تتخذ المبادرات المجتمعية اليوم في سوريا شكلين رئيسيين:

 


المبادرات الفردية، التي تنبع من شعور شخصي بالمسؤولية تجاه قضايا ملحة، وتمتاز بسرعة الاستجابة ومرونتها العالية، لكنها غالباً ما تعاني من نقص في الموارد وضيق نطاق التأثير؛ و
المبادرات الجماعية، التي تتيح تنسيقاً أوسع وتقاسماً أكبر للمهارات، وتخلق شبكات دعم مجتمعي أعمق، رغم ما قد تواجهه من صعوبات تنظيمية مثل اتخاذ القرار أو الحفاظ على وحدة الرؤية.

 

 

بحسب تعريف برنامج متطوعي الأمم المتحدة (UNV)، فإن التطوع هو عمل ينجزه الأفراد طوعاً ومن دون مقابل مادي، بهدف خدمة المجتمع أو فئة منه، بما يُسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي، وبناء السلام، وتحقيق التنمية المستدامة.

 

 

وترى الباحثة الاجتماعية حلا حاج علي، العاملة في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، أن هذه المبادرات لعبت دوراً محورياً في سد فراغ الدولة خلال سنوات الحرب، وأسهمت في ترسيخ نمط جديد من التضامن والمواطنة، وخلقت دوائر دعم نفسي واجتماعي تعزز الروابط الأفقية بين السوريين، وتكسر الحواجز الطائفية والمناطقية التي فُرضت بفعل الحرب.

 

 

وتعتبر الباحثة أن الانتشار الواسع لهذه المبادرات يشير إلى تشكّل ثقافة جديدة قائمة على التعاون والمبادرة الذاتية، وتُسهم في تقليص مشاعر العجز المجتمعي، وبناء ثقة متبادلة، إضافة إلى قدرتها على خلق ضغط جماهيري لتحسين الخدمات، أو دفع السياسات العامة في اتجاه أكثر عدالة وإنصافاً.

 

 

وعن أهمية هذه الجهود، يرى نزار زين، منسق المبادرة في حمص، أن هذه التحركات المجتمعية تحفز الناس وتبث الأمل، لا سيما في ظل المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد، رغم أنهم واجهوا تحديات على الأرض، أبرزها ضعف الموارد وصعوبة التنقل بين مناطق المدينة.

 

 

وتؤكد حلا حاج علي أن الشباب السوري يشكل اليوم الفئة المُحرّكة لمعظم هذه المبادرات، بفضل ما يمتلكه من وعي اجتماعي ومهارات تنظيمية وتكنولوجية، رغم ما يواجهه من تحديات عديدة.

 


ولتوسيع أثر هذه المبادرات وتطويرها، تقترح الباحثة خطوات عملية مثل: بناء شبكات تنسيق وتعاون بين المبادرات المختلفة، وتقديم تدريبات تخصصية لتعزيز القدرات، وتوثيق التجارب الناجحة ونقلها، وتعزيز الشراكات مع منظمات داعمة، وإيجاد مظلة قانونية تحمي العمل المجتمعي داخل سوريا وخارجها.

 

 

شعوب نهضت بمبادرات مجتمعية

 

تستند فعالية المبادرات المجتمعية إلى توفر الإرادة والتعاون المحلي، دون الاعتماد على حلول خارجية جاهزة، أو الاكتفاء بلوم الظروف الصعبة. فمن خلال خطوات بسيطة، كزراعة الأشجار والورود، وتنظيف المدارس والجوامع والشوارع، وإزالة النفايات بشكل دوري، يمكن للمجتمعات المحلية أن تعكس صورة حضارية لمدنها، وتعيد الحياة إلى أماكنها العامة.

 

 

وفي خضم الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب العالمية الثانية، لم تنتظر ألمانيا المساعدة من الخارج، بل خرجت آلاف النساء، المعروفات باسم “نساء الأنقاض” (Trümmerfrauen)، لإزالة الركام من الشوارع والمنازل بأيديهن، في ظل غياب الرجال بين قتلى وأسرى.

 


رغم انهيار البنية التحتية وتراكم الأنقاض، أظهرت هؤلاء النساء إرادة حديدية وإصراراً على إعادة إعمار البلاد، ما رسّخ في الذاكرة الجماعية نموذجاً حياً لما يمكن أن يحققه العمل الأهلي حين تتوفر الإرادة ويغيب الاتكال.

 

 

وتظل تجربة “نساء الأنقاض” مصدر إلهام واقعي، يستحق أن يُستلهم في الحالة السورية، التي تبحث اليوم عن مسارات عملية وفعّالة للنهوض من جديد، بأدوات داخلية وبروح جماعية.

شارك

مقالات ذات صلة