سياسة
بالقدر الذي عانى السوريون من أهوال الحرب بكافة تجلياتها، بدأت مرحلة جديدة مع سقوط النظام، فيها تحديات من نوع آخر بعد توقف إطلاق النار. يشير البعض إلى أن الخطر الحقيقي بعد الحرب لا يقل أهمية عن أخطار سنوات الحرب نفسها؛ اللحظة التالية التي يُفترض أن تبدأ فيها مرحلة التعافي وإعادة الإعمار، حيث تبدأ المساعدات والتمويلات الدولية بالتدفق، وتدخل الشركات والمؤسسات الدولية من كل حدب وصوب.
في الوقت الذي يُفترض لهذه المرحلة أن تكون بداية أمل، قد تتحوّل إلى لحظة اغتيال جديد للحلم، باسم الإعمار. فقد تبدأ عملية نهب منظّم، لا تقل شراسة عن الحرب، ولكنها أكثر هدوءاً، تجري في المكاتب، وتوقّع في الاجتماعات، وتُغلف بالقوانين.
لا تستغرب! فكما ظهر خلال الحروب من استفادوا من الفوضى، وصاروا تجّار أزمات وحروب، هناك أيضاً من يستعد لأن يكونوا تجار تعافٍ وإعمار، ممن يرى في مرحلة ما بعد الحرب فرصة لا لبناء الدولة، بل لبناء ثروة شخصية.
قد تكون العبارة صادمة، لكنها واقعية بكل المقاييس. ما يُفترض أن يكون فرصة تاريخية لإعادة تأسيس الدولة على أسس العدالة والشفافية، قد يتحوّل في بعض الأحيان إلى لحظة يُعاد فيها توزيع الموارد، لا لصالح المواطنين، بل لصالح نخبة محظية تمتلك مفاتيح القرار، أو مقرّبة من السلطة على أقل تقدير، وتتحصن خلف جدران النفوذ والشرعية الشكلية.
الفساد ورجالاته، في هذه المرحلة، لا يكون عرضاً جانبياً، بل يتحوّل إلى بنية ومنظومة متكاملة. ما أظهرته تجارب دول مثل العراق ولبنان وأفغانستان وليبيا هو أن الفساد ما بعد الحروب لم يكن مجرّد خلل، بل تحوّل إلى العمود الفقري للاقتصاد السياسي الجديد. بُنيت أنظمة ما بعد النزاع في هذه الدول على شبكات الولاء والزبائنية، وأُعيد تشكيل الدولة لتخدم تحالفات السلطة والمال، بدل أن تكون أداة للخروج من الفوضى وتبعات الحرب.
يتبلور الفساد في هذه المرحلة من خلال منح العقود الحكومية بلا مناقصات، وتضخيم تكاليف المشاريع، ونشوء صناديق إنفاق ضخمة من دون أي رقابة جدّية، واستخدام التمويل الدولي في مشاريع لا تلامس حياة الناس، وتغييب العدالة الاجتماعية، ومنح أهمية مبالغ بها لبناء أبراج زجاجية مقابل أحياء فقيرة؛ مشاريع تخدم أجندات سياسية أو تسويقية لجهات بعينها. لا يعود الفساد هنا مجرد سرقة في الخفاء، بل يتحوّل إلى إعادة هيكلة كاملة لاقتصاد ما بعد الحرب.
قُدّرت الأموال المنهوبة من برامج الإعمار بنحو مئات ملايين الدولارات أُهدرت على الاحتيال والفساد في كل من العراق وأفغانستان. أما في لبنان، فقد دخلت المليارات، لكنها لم تصل إلى الطرقات ولا إلى الكهرباء والمستشفيات، بل انتهت إلى جيوب السياسيين والمصرفيين وأبراجهم الزجاجية. ما حدث هناك ليس مجرد قصص فساد، بل شواهد على انهيار كامل لوظيفة الدولة في لحظة يُفترض أن تكون لحظة نهضة وإعمار من تبعات النزاع والحرب.
في الحالة السورية، وبعد سقوط النظام، فإن أي عملية تعافٍ لا تُبنى على قواعد واضحة للشفافية والمحاسبة، ولا يُشرك فيها المجتمع المدني، ولا تُخضع للمراقبة المستقلة، ستكون مكرّسة لتعميق الفجوة بين النخبة الحاكمة والجمهور. بل قد تُحوّل التعافي إلى لحظة جديدة من الإقصاء والاستحواذ، تعيد إنتاج أسباب النزاع بدل أن تُعالجها.
الحل لا يكمن في الإعمار بحد ذاته، بل في الكيفية التي يُدار بها. لا شكّ أن إعادة بناء الجدران والبنية التحتية مهمة، لكنها بلا قيمة إن لم تترافق مع إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. بلا قيمة إذا قررت الدولة بناء حواجز مع المجتمع، بلا قيمة إذا تعاملت الدولة مع ذات الأشخاص الفاسدين، وشكلت زبائنية جديدة حولها.
التعافي الحقيقي لا يتحقق إذا استُنسِخت نفس أدوات الحكم التي قادت إلى الثورة ضد نظام الأسد والمتنفذين حوله، أو أُعيد تدوير الفاعلين أنفسهم الذين استثمروا في الحرب، ليتولوا بعد ذلك إدارة المال العام والخاص في زمن الإعمار.
المفتاح الأول لأي تعافٍ نزيه هو الشفافية الكاملة، لا بوصفها قيمة أخلاقية فقط، بل كأداة عملية لحماية الموارد من النهب. يجب أن يُتاح للمواطنين حق الوصول إلى جميع تفاصيل العقود والاتفاقيات والمناقصات، سواء تلك المموّلة من الداخل أو من الجهات المانحة. لا ينبغي أن تبقى مشاريع الإعمار والتعافي طيّ الكتمان أو محصورة بين مسؤولين ووسطاء وشركات تدور في فلك السلطة.
في الكثير من الدول الأوروبية، تم تقليص حالة الفساد بسبب عدة عوامل، بينها الرقابة الأمنية، وقوة القانون، ولأن الحكومات هناك ملزمة بنشر كل عقد وكل مشروع علناً، ليطّلع عليه أي مواطن أو صحفي أو جهة مستقلة.
الأمر الآخر، الصحافة الحرة والسلطة الرابعة، في هذه مرحلة التعافي، ليست ترفاً، بل ضرورة. لا يمكن تصوّر رقابة فاعلة دون إعلام مستقل يملك القدرة والموارد لتتبّع الإنفاق العام، وتحليل العقود، وطرح الأسئلة المحرجة على الجهات المسؤولة. في المقابل، لا يكفي أن يُسمح للصحفيين بالوصول إلى المعلومة، بل يجب أن يكونوا مدرّبين على الصحافة الاستقصائية، وعلى تحليل الوثائق المالية، وعلى استخدام أدوات العصر لكشف التلاعب.
إلى جانب الشفافية والإعلام، لا بد من الاستفادة من الأدوات التكنولوجية الحديثة، وعلى رأسها تقنية “سلاسل الكتل” أو الـBlockchain، التي توفّر نظاماً محكماً لتسجيل كل عملية إنفاق أو تحويل مالي بشكل لا يمكن التلاعب به. هذه التقنية لا تسمح فقط بالتوثيق، بل تجعل من التزوير مهمة شبه مستحيلة، وتمنح الجهات الرقابية، المحلية والدولية، قدرة على تتبّع كل دولار يدخل أو يخرج، وهو ما يُعطي المواطن ثقة بأن ما يُعلن عنه لا يختلف عما يُنفذ فعلياً.
التعافي ليس عملية مالية فحسب، بل هو إعادة تأسيس لعلاقة الدولة بمواطنيها، ولا يمكن أن تُبنى هذه العلاقة من جديد في ظل التعتيم، وغياب المحاسبة والرقابة والشفافية، وتضخيم أدوار الوسطاء والمحظيين. حين تُدار أموال التعافي بشفافية، وتُراقب بصرامة، وتُوظّف لخدمة المجتمع لا مصالح النخب، عندها فقط يمكن القول إننا لا نُعيد بناء ما دمرته الحرب فحسب، بل نبني دولة جديدة بمعايير رصينة.
الحل لا يكمن في الإعمار بحد ذاته، بل في الكيفية التي يُدار بها. يحتاج التعافي الحقيقي إلى انكشاف كامل للمعلومات أمام المواطنين، ونشر كل العقود والمشروعات للعلن، وتمكين الإعلام من تتبّعها وتحليلها. يحتاج إلى اعتماد أدوات تقنية تمنع التلاعب، مثل سلاسل الكتل لتسجيل الإنفاق العام، وإلى اشتراط صارم من الجهات المانحة بربط التمويل بآليات رقابة ومساءلة، لا بمجرد تقارير تُكتب في المكاتب البعيدة عن الواقع.
السؤال الذي يجب أن نبحث فيه من الآن وصاعداً ليس فقط: متى تبدأ مرحلة التعافي؟ بل: من يملك هذه المرحلة؟ من يديرها؟ من المستفيد منها؟ من أخذ العقود والمواثيق؟
إذا لم نطرح هذا السؤال الآن، ونتعامل معه بجدّية، فإن سوريا، كما غيرها من البلدان التي خرجت من النزاع، قد تدخل في مرحلة تعافٍ كاذبة، تُغلّف الفساد بالشعارات، وتدلل على النهب عبر المشاريع. وحينها، لن تكون الحرب قد انتهت فعلياً، بل تكون قد اتخذت شكلاً آخر، أكثر هدوءاً، أو لنقل: أكثر خطورة.