سياسة

حرب كُبرى تقربنا من الانتصار الكبير (2-3)

مايو 27, 2024

حرب كُبرى تقربنا من الانتصار الكبير (2-3)

 (2) جولة طوفان الأقصى


لا يمكن لأحد لديه أدنى دراية بطبيعة الصراع العربي الصهيوني على أرض فلسطين توقع أن تكون معركة طوفان الأقصى آخر جولات الصراع، وإن كانت من أهمها. كما لا يمكن لأي قارئ في العلوم العسكرية أو الاستراتيجية أن يحسب الطرف الرابح أو الخاسر في أية معركة على أساس من فقد أقل أو أكثر في الأرواح أو المعدات أو الممتلكات، وإلا كان الانتصار في الحرب العالمية الثانية -كمثال- من نصيب دول المحور، وكانت دول الحلفاء هي الطرف المهزوم. وإذا كانت معركة طوفان الأقصى نقطة تحول كبيرة جدًا على طريق تحرير فلسطين، فإن النتيجة النهائية لهذه الجولة تتوقف على قياس أي من الطرفين سيحقق أهدافه، أو أكبر قدر منها، وبمعنى أوضح من سيفرض إرادته عند توقف القتال، ومن ثم الواقع الجديد الذي سوف يُبنى على ذلك.

ومع الاحترام الكامل لكل تفصيلة، جوهرية كانت أو بسيطة، ما دامت تتعلق بحياة أصحاب الأرض والحق، وحريتهم وكرامتهم وحرمة دمائهم وممتلكاتهم، فإننا إذا أردنا تلخيص النتائج الكلية لمعركة طوفان الأقصى -حتى الآن- على الجانبين فإنه يمكن إجمالها بقدر ما تسمح به السطور التالية كالآتي:

فلسطينياً؛ يمكن التمييز بين أربعة مستويات: الشعب، السلطة، حركات المقاومة، والقضية ذاتها. أما الشعب الفلسطيني في غزة؛ فقد فاز من أبنائه بالشهادة حوالي 36 ألف شهيد غالبيتهم من النساء والأطفال، كما أصيب أكثر من 80 ألف إنسان، نسبة كبيرة منهم تركت إصابته عجزًا كليًا أو جزئيًا لصاحبها، بالإضافة لأكثر من 8800 معتقل جديد بسجون الاحتلال، مع تدمير واسع وغير مسبوق لقطاع غزة، للمباني العامة والخاصة والبنية التحتية والمرافق الأساسية، كما طال أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية نصيبًا أقل من العدوان الهمجي الذي خلف فيها أكثر من 450 شهيدًا، مع مواجهات واقتحامات متكررة لجيش الاحتلال في معظم المحافظات وخاصة المخيمات، وإطلاق يد المستوطنين المتطرفين في ارتكاب أعمال عنف ممنهج، أوسع نطاقًا وأشد حدة من المعتاد ضد أصحاب الأرض الفلسطينيين.

 

السلطة الفلسطينية استمرت في أدائها المخزي إجمالًا، وقطعت خطوات أخرى في طريق التحلل وانتهاء دورها وتأثيرها الذي يعيش الآن فقط على ركيزتين هما الاعتراف والدعم من قبل المجتمع الدولي، والسماح والقبول بالوجود من قبل المحتل الإسرائيلي، إذ إن الاحتكام إلى الإرادة الشعبية (الحقيقية) في أية انتخابات مفترضة – بعد ما جرى من تأجيلات متتالية لسنوات طويلة- سوف تعلن وفاة تلك السلطة بتركيبتها الحالية لصالح سلطة جديدة تنتمي للحظة الحالية، وتعبر عن أحلام الشعب الفلسطيني وترتقي لمستوى بطولته النادرة وتضحياته المذهلة. وتبقى مسئولية التوافق على شكل ومضمون هذه السلطة مهمة ليست سهلة، لكنها واجب وطني غاب لسنوات عديدة لأسباب ليس هذا موضعها.

أما حركات المقاومة (حركات التحرر الوطني)؛ والتي يتقدمها في هذه المرحلة من النضال الفلسطيني الممتد حركة حماس ثم الجهاد الإسلامي، فإن ما تقدمه على مدار الثمانية أشهر الماضية -في كنف حاضنة شعبية قلما نجد لها في التاريخ مثيلًا- فإنها ستخسر بالتأكيد في هذه المعركة نسبة غير قليلة من مقاتليها، ونسبة كبيرة من عتادها العسكري وتجهيزاتها الميدانية، لكن مكاسبها في النهاية سوف تكون كبيرة على مستوى القدرات القتالية المستقبلية، وأهم من ذلك وأكبر على صعيد سمعتها الوطنية وتجسيدها للإرادة الشعبية في طريق الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، وذلك مع التسليم من واقع التجارب السابقة بقدرتها على تعويض العناصر البشرية على مستوى القادة والجنود، وبأعداد أكبر، مع توارث الكفاءة والخبرة وتطويرهما باستمرار، كما أن تلك الفصائل المقاومة قد أثبتت قدرة متنامية على إنتاج أسلحة متنوعة محلية الصنع، تمثل نقلة نوعية في القوة النيرانية والتدميرية، وفي المدى والدقة، بينما لن تُحسم الآن فرصتها في استمرار الحصول على أسلحة من خارج القطاع المحاصر منذ أكثر من خمس عشرة سنة، والذي لا يعرف مصير حصاره، وطبيعة إدارته القادمة.

وبالنسبة للقضية الفلسطينية ذاتها؛ فقد دبت فيها الحياة في وقت كانت تتعرض للقتل البطيء والمستمر، والذي يتواطأ فيه بعض الأبناء وكثير من الأشقاء والأصدقاء والشركاء، وذلك بعدما انتزع الشعب الفلسطيني البطل ومقاومته الباسلة احترام كل إنسان حر أيًا كان موطنه في أرجاء المعمورة، وما المظاهرات الشعبية الحاشدة والاعتصامات الطلابية المدهشة في أنحاء العالم إلا نموذجان لصحوة الضمير الإنساني تجاه قضية أخلاقية وإنسانية، كما أن مزيدًا من القرارات المؤيدة للحق الفلسطيني أو الرافضة للعدوان الصهيوني قد جاءت من قبل العديد من المنظمات الدولية كالجمعية العامة للأمم المتحدة التي صوتت بأغلبية كاسحة لصالح الاعتراف بدولة فلسطين، ومحكمة العدل الدولية التي أصدرت قرارًا غير مسبوق بالأمر بإيقاف العدوان على رفح، والمحكمة الجنائية الدولية التي تستعد لإصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس وزراء ووزير دفاع دولة الاحتلال، كما اتسعت خريطة الدول المؤيدة للحقوق الفلسطينية شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، والتي كان آخرها اعتراف ثلاث دول أوروبية، لكل منها رمزيتها الخاصة، بدولة فلسطين وهي: أسبانيا والنرويج وأيرلندا.

وعلى جانب الكيان الصهيوني؛ فإن الشكوك من بعد يوم 7 أكتوبر 2023 بشأن بقاء هذا الكيان في حد ذاته باتت أكبر من أي وقت مضى منذ يوم 6 أكتوبر 1973، وبينما كان الاحتلال على وشك اكتمال حلمه الأهم منذ تم زرعه على هذه الأرض، التي لا تعرفه، باعتراف محيطه به وتطبيع علاقاته معه، إذا به يصحو على كابوس مفزع بعدما تجدد الثأر وعادت القضية حية في وجدان الشعوب كاشفة وضاغطة على الذين اختاروا طريق الاستسلام من حكام ونخب. ومن بين أبرز نتائج تلك الجولة على هذا الكيان: الخسائر البشرية الموجعة في صفوف الجيش الصهيوني، والعدد الضخم من الأسرى لدى فصائل المقاومة، ومئات آلاف المهجرين من مستوطنات غلاف غزة وشمال فلسطين المحتلة في عام 1948، والاستنفار الدائم في الضفة الغربية تحسبًا لغضبة المخيمات الكامنة وعمليات الذئاب المنفردة، والهجمات المستمرة من جبهات لبنان تحديدا، ومن اليمن ثم العراق، وانهيار الصورة الزائفة عن الجيش القادر على تنفيذ الأهداف الموضوعة له وتحقيق النصر في مواجهة أعدائه خلال أيام، بل وانهيار منظومة الردع واليد الطولى التي بنيت عليها نظرية الأمن القومي لدولة الاحتلال، كل هذه المستجدات وغيرها تترك الكيان الصهيوني اليوم ليس فقط في محيط من الشعوب الرافضة لوجوده، ولكن أيضًا تحيط به جبهات مقاومة يتسع نطاقها وتزداد قوتها ليتجدد السؤال في نفوس المستوطنين الذين جاءوا ليستعمروا هذه الأرض على جثث أصحابها عن مستقبل وجودهم، وإمكانية بقائهم، وإلى متى؟

إن جولة طوفان الأقصى صحيح أنها لن تكون جولة الحسم لكنها نقلت القضية الفلسطينية إلى مرحلة جديدة ربحت فيها مكاسب كبرى عبر تضحيات ملهمة يقدمها “شعب الجبارين” ومقاومته الأسطورية، وإن فشل الاحتلال بعد قرابة ثمانية أشهر في تحقيق أي من الأهداف التي أعلنها عند بدء الاجتياح البري لقطاع غزة، يجعل من غير الممكن أن يحقق أيًا منها فيما تبقى من أيام أو أسابيع أو حتى شهور من عمر هذه المعركة، فجيش الاحتلال مهما أمعن في القتل والتدمير قد افتضح اليوم عجزه الأكيد عن القضاء على حركات المقاومة، أو تصفية أذرعها العسكرية، أو استعادة الأمن لمستوطنيه على حدود القطاع وفي الشمال، أو حتى استعادة أسراه عبر القوة المسلحة، بينما تبدو المقاومة الفلسطينية في حضن وحماية شعبها قادرة على الصمود والاستمرار في القتال تحت كل الظروف القاسية ومع كل التضحيات العظيمة، وهي بذلك غير مؤهلة للهزيمة، بل إنها تمشي بثبات في مسيرة شاقة وطويلة آخرها وعد الله الحق، والنصر الجميل.

 

انتهى،،،،

شارك

مقالات ذات صلة