مدونات
كتب مصطفى نصار
لمصر وجهان؛ أولهما سياسي رسمي يتكلف الدعم للقضية الفلسطينية ظاهريًا لأسباب شخصية، ومصالح ذاتية تتعلق بدوائر الحاكمين والمسؤولين في مصر، ووجه آخر شعبي لا علاقة له بتلك المصالح الضيقة التي أدت إلى كوارث مصفية، كما هو معروف بالضرورة في التحليل السياسي، بالمقولة المعبرة بعمق ودقة: “الشعب في واد، والنظام في واد آخر”، ما دفع البلاد لانفصالية نكدة وكئيبة في آخر عقد من الاعتداءات الإسرائيلية الغاشمة على قطاع غزة، بالتحديد منذ 2012م، أي اتجهت السياسات إلى التصهين الكامل في كافة المستويات، بدءًا من الاقتصاد إلى التعامل مع الدين والشعائر الروحية في المساجد على وجه التحديد لما لديها من قوة روحية تتصل مباشرة بمناهضة الظلم والقضاء على الاستبداد السياسي مع وجوب نصرة قضية فلسطين باعتبارها اتجاهًا أساسيًا في تحديد مستقبل هذه الأمة العربية والإسلامية عامة.
فبدأ الشعب المصري إذن، كعادته عبر التاريخ، بالتحايل على السلطة الغاشمة لضعفه وهشاشته البنيوية، كما أشار جويل ميجدال، أستاذ السياسة في جورج تاون، في كتابين مختلفين ألا وهما: الدولة في المجتمع، ودول قوية ومجتمعات ضعيفة، ما دفعه للدعم المعنوي والمالي والإلكتروني.
إنما الدعم الحقيقي يكمن فيما تتصل به الدولة المتصهينة مع الكيان الذي يقوم بتنفيذ أكبر إبادة جماعية مذاعة على الهواء مباشرة، وسط تنسيق أمني واقتصادي يعتبر الأعمق والأقوى منذ التطبيع باتفاقيات العار في كامب ديفيد عام 1979م، حين حذر الفريق سعد الدين الشاذلي السادات بأن ذلك سيغير عقيدة القيادات العليا للجيش والجنود عبر أجيال طويلة من الزمن، ما جعل السادات ينقل الشاذلي ويضيق عليه ويبعده حتى استقر في الجزائر عام 1989م لتاريخ وفاته، وتلك صورة مصغرة عن تصادم المصالح وتعارضها الصارم بين الوطن والدولة المتصهينة بعد التطبيع.
فلو علم الفريقان الشاذلي ومحمد الجمصي أن الدولة المصرية ستتحول إلى دويلة منبطحة ذليلة للاحتلال الإسرائيلي، لقاموا بإعدام الخونة والعملاء رميًا بالرصاص الحي في ميدان التحرير، وجهزوا الناس للتجمهر بمئات الآلاف للنزول إلى الميادين العامة، والزحف لمعبر رفح لاقتلاعه عن بكرة أبيه، وإجبار الكيان الصهيوني على إنهاء الحرب رغمًا عنه، وأدخلوا أضعاف المساعدات الإنسانية لقطاع غزة على مدار أعوام وعقود، مع إنهاء الأزمة الاقتصادية الممتثلة في المجاعة الشديدة وغلاء الأسعار الفاحش، دون التلويح المبطن بالحرب، فضلًا عن الدخول الفعلي فيها بالفعل، ليس فقط لعدم سماح حالة البلد الحالية، بل ستواجه سحقًا مدمرًا إن دخلتها.
تفتقر دعوى منع الحرب على الأساس السابق أن مصر السيسي لا يريد أن ينقذ غزة، ليس فقط لمهانته وانبطاحه الجسيم، بل لأنه عكس حتى السادات ومبارك السابقين له في العزبة العسكرية، في تمكنهم من الألاعيب السياسية الفطنة ذات الخطوط الحمراء، ما منح لهم توازنًا وشعبية جارفة، رغم تشاركهم جميعًا في وظيفية الدولة المصرية بحد تعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري، ولذلك يستمدون شرعيتهم من الكيان الإسرائيلي نفسه لضمان استمرارهم وأمنهم، كما قال الأسير والمفكر الدكتور حسام أبو البخاري على منصة ميدان رابعة العدوية في 12 أغسطس 2013م.
مصر المناهضة لاستمرار المقاومة: تجذر السياسات الصهيونية النقية في العقد الأسود.
اتضحت وتوطدت العلاقة داخليًا مع الكيان اللقيط طيلة العقد الأخير، على وجه التحديد في مجالي السياسة والأمن، في عدة ملامح محددة الأوجه تتمثل في: تفريغ الحدود الملاصقة مع غزة، وإغراق 1500 نفق رابط بين رفح الفلسطينية والمصرية، وإحكام الحصار الخارجي من ناحية قطاع غزة، فضلًا عن قطع التغطية الإعلامية التامة عن سيناء خلال عمليات التهجير والتصفية الممنهجة للقبائل التي استمرت بقسوة طيلة 10 أعوام بحجة محاربة إرهاب 1000 شخص أو أقل، حسبما أُعلن وقتها، مستغلًا إياها باعتبارها حجة واهية لزيادة القمع والبطش.
وعطفًا على ذلك، فرغ النظام المصري سيناء عن طريق الحجة السالفة، معتمدًا على الإرهاب الوهمي وتنسيقه الأمني الصلب مع الاحتلال، حتى وصل لفرصة تعديل كامب ديفيد في نوفمبر 2021، لإدخال معدات وأدوات عسكرية أكبر، بالطبع لمواجهة ذلك الوهم المفزع، ما أخضع سلطة مصر السياسية بطريقة محضة للاحتلال واستباحة سيناء وطابا بعدة طرق وعوامل، إما عسكرية أو سياحية، ولعل مناهضة فكرة عودة أهالي سيناء من القبائل المهجرة قسرًا، يعود بالمقام الأول لإحكام الحصار واستمرار التربح الدموي منهم عند الخروج والدخول من المعبر الوحيد، معبر رفح البري.
أما في السياسات المتبعة عقب الطوفان، فيكفي النظر في الحجج الواهية المستمرة حتى اليوم لمعرفة سبب مناهضة المقاومة وتصهين السياسات المتبعة تجاه فلسطين التاريخية، بدءًا من الشيطنة وتشويه المقاومة، مرورًا باعتقال المتضامنين والمتظاهرين مع غزة والبالغ عددهم 1200 شخص، مع التجديد للحبس لهم لمدة 14 يومًا، وانتهاءً بافتعال المسرحيات المنحدرة أمام معبر رفح للضغط الظاهري، لا ليتحول فقط هذا المشهد السطحي لمحاولة رفض مصطنع ومختلق، بالتزامن مع تزايد التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي بنسبة 20%، بعبارة أخرى: يصطنع اللقطة الهابطة لزيادة شعبيته الهابطة وكرامته المهدورة.
ولن يكتفي بذلك، إذ اقترح لأول مرة، حسبما أكد وزير الدفاع الصهيوني يسرائيل كاتس، في فضيحة مدوية، نزع سلاح المقاومة وعزتها وشرفها، بعلم كامل وإدراك تام أن من نزع سلاحه نزعت معه لب المقاومة وأسسها، بحسب فرانز فانون في كتاب معذبو الأرض، ليس حبًا في الصهاينة فحسب، بل لأن عديم الشرف والمروءة لو قتل برصاص محتل، لقام من الأموات تباهيًا بأنه لا يعرف من تلك المعاني شيئًا، أو كما قالت روت ويسدمان، الدبلوماسية الصهيونية، في السخرية المريرة من مقولة: “هروح من ربي فين؟!”، وهو في حد ذاته أكبر بلاء على الشعب المصري منذ أكثر من 57 عامًا!!
بأن تصبح غزة من دون حرب: نجاة المصريين من فاتورة غزة أبسط من وهنكم!!
يتكرر التخبط والجدل الدائم فيما يعانيه المصريون خلال العقد الأخير من أزمات اقتصادية مركبة وعميقة، تصل لأدق تفاصيل الحياة اليومية من مأكل ومشرب وملبس وأدوية ومواصلات يومية، لغاية التعليم والعمل، وآخرها رفع سعر الوقود بمعدل من 15 إلى 20%، دون حتى أن يسألوا عن مصدر كل مشكلاتهم ليصب في جملة واحدة قالها ابن خلدون منذ أكثر من 5 قرون، ألا وهي: “الظلم مؤذ بخراب العمران”، أي له قوة هدامة ومدمرة ممتدة على الجميع.
ولا تقف دوائر الظلم والطغيان على مجرد فئة بعينها، سواء كانت مؤيدة أو معارضة أو محايدة لسياسات الثكنة العسكرية التي نعيش بداخلها، ولهذا يأمرنا الله عز وجل بأمرين في هذا السياق الأعم والأوسع، وهو اتباع الأقلية الصالحة على حساب الأغلبية الخانعة أو الجبانة، لأن الخوف وقتما يتحول لحاكم ومحدد شعوري، يتحول الإنسان لآلي مصمد جامد، أو حيوان لا يركز إلا على الأساسيات الرئيسية ليرتقي إلى درجة الإنسان الحي، فتنتهي به المحاولات اليائسة لتحويله إما لمهدور أو مهدر حياة آخر، كما صنفها الدكتور مصطفى حجازي في كتابه الإنسان المهدور.
للأسف الشديد كذلك، فُسر يأس الشعب وخنوعه هذه الأيام بالحنكة والحكمة ومحاولة الحفاظ على الدولة، ليظهر سؤال طالما طُرح: هل سيناريوهات المستقبل مشرقة لهذا البلد؟!، وتظهر الإجابة جلية واضحة هامة حيوية مؤلمة محددة بين ثلاثة احتمالات ليس أكثر: ثورة جياع، انفجار يائس، أو تحول كامل لحالة غزة من دون حرب، مع عجز متجذر وخنوع ودوران في الفراغ لتفادي هذه المصائر دون تكلفة، لكن ألم يسمع هؤلاء قط قول الراقصين على الدماء والأشلاء، سواء حاليًا في إبادة غزة أو في مذابح رابعة والنهضة وغيرها من الأهوال المفزعة لأي شخص؟!
ولهذا، لا سبيل للإصلاح القائد، فالشعب المصري يجب أن يجعل النجاة الجماعية في صلب الحياة، لأن الفرد يتشظى ويتهلهل بجعله لقمة العيش مركزًا تدور حولها الحياة اليومية التي تدمرت بفعلها، ما خلّ بالبوصلة الأخلاقية والقيمية للأفراد، فانتشرت الأشكال الهجينية والمستهجنة والشاذة من الأفكار والمعتقدات التفريدية الهدامة، وساد عدم الاستقرار الذي بدوره مارس أشكال السيولة وعدم الثبات واليقين المعرفي والقيمي، ممهِّدًا الطريق لانتشار سلسلة من الجرائم البشعة ذات الهزّات الأبشع والأشنع، سواء في التعليق عليها أو حتى وسائل العلاج المقترحة.
يتخطى الأمر المجتمع المصري بمراحل ليأتي إلى غزة، الأمل الوحيد ومتنفس الحرية الأكثر مرونة وسلاسة، حتى في وقائع الإبادة والقتل والتشريد باكتساح غير مسبوق، ليعلن في النهاية عادته الثابتة بتمسكه بالتحايل والفهلوة المنحدرة والعيش بيومه، ليشهد تغيرات متسارعة لا توصف، وكذلك واقعًا ضائعًا مُضيَّعًا بفعل نفس الأنماط والأفكار المميتة التي طالما هشّمت هذا المجتمع على مدار أكثر من 71 عامًا، فينتهي بالإحباط والاستسلام للواقع، وهو يعلم أنه “كلما استسلمنا للواقع مستقبلًا، انحدرنا لأكثر الدركات ظلمة”، أو يصدق المرء إحباطه ويأسه الموزع بكثرة على حياته اليومية، فيتجه للانفجار، كما أكد إريك هوفر الفيلسوف الأمريكي في كتابه المؤمن الصادق.
إن دفع حساب سكوت الشعب المصري عن غزة، سيأتي أكبر بمراحل من الآن، بحيث لن ينفع التحايل الاجتماعي والعيش في كنف الاستبداد “الذي هو أشد على النفس من السؤال” بحد تعبير عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله، ولهذا، فالدفع بالتحرك أبسط وأسهل من تحول كامل للمجتمع المصري، بنموذج أشبه برواية جورج أورويل مزرعة الحيوان، التي انهارت في النهاية بفعل إما سكوته المهين، أو كلامه وأنانية نابعة من تربية خاطئة، لتنتج مزرعة لا تعرف حتى تحضير علفها بنفسها.