مشاركات سوريا

قوافل العودة.. حين تُطوى صفحة التغريبة!

أبريل 22, 2025

قوافل العودة.. حين تُطوى صفحة التغريبة!

-يمامة صوان

 

لم تكن قوافل العودة يومًا مجرد سيارات نقل، بل أوعية لذاكرةٍ مثقلة بالحنين.

 

عربات حملت أجسادًا مُنهكة وقلوبًا مقهورة في رحلة النزوح القسرية، ها هي اليوم تتهادى على طرقات العودة. ما أغرب أن يشهد المركب ذاته على لحظتين متناقضتين في التاريخ القريب: لحظة الاقتلاع، ولحظة الغرس من جديد. فما كان وسيلةً للفقد، صار أداةً للاسترداد.

 

 

في تلك اللحظات القاسية، حين كانت العائلات تُلملم ما خفّ وزنه وغلا ثمنه، كان الزمن يتسرّب من شقوق السيارات المتعبة، مختلطًا بدموع الوداع المكتومة. كانت الأمتعة قليلة، لكن الذكريات كثيرة، والأحلام أكثر. وضعنا ما استطعنا من صور العمر وبقايا البيوت في صناديق السيارات، وتركنا خلفنا جدرانًا شهدت على أفراحنا وأحزاننا، أسرّة احتضنت أحلامنا، وحدائق نمت فيها أرواحنا.

 

 

تشابهت عيون الراحلين في حكاياتها؛ عيون لا تجرؤ على النظر إلى الخلف خشية أن تموت كمدًا، ولا تستطيع التطلّع إلى الأمام لأن الضباب كان يحجب المستقبل. عيون معلّقة في لحظة زمنية مبهمة، كمن يقف على حافة هاوية.

نظرات كانت تهمس في الأعماق بسؤالٍ واحد: “هل سيكتب لنا العودة يومًا؟”

 

 

وها نحن اليوم نشهد المعجزة التي بدت يومًا كحلم بعيد.

 

قوافل العودة تتدفق على طرقات كانت بالأمس مسالك للهروب. السيارات ذاتها، والوجوه ذاتها، لكن الملامح تغيّرت. شيء في الأعين استعاد بريقه، وارتجافة الشفاه توحي بابتسامة يقين. لقد انطوت صفحة التغريبة، وبدأت فصول العودة تتكشف.

المخيمات، التي كانت يومًا حاضنة للألم وشاهدة على مآسٍ لا تُحصى، بدأت خيامها تتلاشى واحدة تلو الأخرى. أطفال نشؤوا على أرضٍ غير أرضهم، يسألون آباءهم:

 

“كيف شكل بيتنا؟”

“رح يكون عندي غرفة وتخت؟”

“رح ألعب مع رفقاتي بالحارة؟”

أسئلة بسيطة، لكنها محمّلة بأمل كبير.

 

 

في وجوه العائدين، نرى تاريخًا من الصمود. تجاعيدهم ليست مجرد علامات للعمر، بل شواهد على حكايات صبرٍ لا تُروى. نظرات مثقلة بتفاصيل القهر تحوّلت إلى أخرى مفعمة بالحياة والأمل.

 

في زحمة العودة، ثمة مشاهد لا تلتقطها العدسات.

مشاهد تختصر معنى التغريبة كلها:

أم تحتضن ولدها،

أب يبكي على أنقاض منزله،

وصديق ينحني بخشوع على قبر رفيقه.

 

 

شوارع كانت تعج بأصوات القذائف، تستعيد اليوم نبضها الطبيعي. ضحكات الأطفال تعلو شيئًا فشيئًا، تطغى على صدى الموت الذي ظل يتردد في الأرجاء لسنوات. حتى الأشجار التي بقيت واقفة رغم كل شيء، تبدو وكأنها تنحني إجلالًا للعائدين. وكأن الطبيعة نفسها تحتفي بعودة أهلها.

 

 

أتساءل: هل يمكن لإنسان أن ينسى وجع التهجير؟ هل تُمحى صورة تلك السيارات المحمّلة بالخوف؟ ربما لا.

 

لكن ما يحدث اليوم ليس نسيانًا، بل تحويل للألم إلى قوة، وللوجع إلى عزيمة، وللذكريات المؤلمة إلى بداية ذكرياتٍ جديدة..

ذكريات ترسمها سوريا الحرّة.


فللتغريبة نهاية، وللعودة بداية. وبينهما، تكمن حكايتنا نحن، الذين علّمتنا الحياة أن الأوطان لا تموت، والأحلام لا تتقادم، والشعوب لا تنكسر مهما طال القهر.


وهنا، لا يسعنا إلا تذكّر المشهد المهيب للشاعر علي عرموش، الذي وقف ذات يوم على تلال سراقب يتساءل بقلبٍ مثقل بالحنين عن العودة واللقاء. واليوم، وقد عادت إليه مدينته وعاد إليها، استحالت كلماته من سؤال الغربة المفجوع إلى نشيد العودة.

صوته الذي كان يصارع دموع القهر، أصبح اليوم يصدح في سماء الوطن.


حان اللقاء وقد تاقت لك القبل

وأينع الحلم فينا فهو مكتمل

ما كنت أحسب أن ألقاك ثانية

وقد تمادى النوى واستنفذ الأمل

أتعلمين مدى الأشواق إذ سفحت

وهل رأيت سواقي الجمر تنهمل

وهل خبرت عن الذكرى وما فعلت

وكم لقيت من الأغراب ما فعلوا

لن يرجع الكل يا شماء وا أسفاً

فهل حفظت لنا آثار من رحلوا

خمسٌ كخمسين قد أنفقت من عمري

فمن يلمني إن أودى بي العجل

شارك

مقالات ذات صلة