آراء
بعد سبعين سنةً من الاحتلال، وخمسين سنةً من المقاومة، وعشرين سنة من الحصار، وعشرين شهرًا من المذبحة، وعشرين دهرًا من المساجَلة، لحظة توقف، ونقطة نظام، بات المقاتلون هم المشكلة، والسلاح هو المسألة، وبات الاحتلال مجرد رد فعلٍ يسعى لاجتثاث الفعل حتى يتوقف هو عن ردوده، وكأن “إسرائيل” كان يلزمها وجود مقاومة، ذريعةً لقتل خمسين ألف إنسان، على أساس أنها لم تقتل أضعافهم في صمت، بدم بارد، على مدار عقود إجرامها، وكأن المحتل لا يتوسع بين الضفتين، ولا يتناوب على مدن حكم السلطة، ولا يغتصب كل يوم قطعة جديدة، دون أن يحمل المارُّون فأسًا ولا حجرا!
ينادون: “بأي ثمن وقفوا الحرب”، وكأن الثمن الذي سيدفع سيوقف الحرب فعلا، وآه لو كانت الأمم تنجو بوضع أسلحتها، لما شقي البلدان ولا الولدان، ولا تكبدت القوى عناء التصنيع والتسليح، وإنما الحقيقة أن الدول لا تأمن إلا حين تترقب، ولا تسلم إلا حين تأخذ حذرها وأسلحتها، ولا تحصل على احترامها إلا حين “تقل أدبها”، ولا تحصل على حقوقها إلا حين تؤدي الواجب عليها، والكلام ليس كلام المتفرج الوضيع الذي يشاهد في برود وانعدام إحساس بما يجري، وإنما تجري دموع غزة في الأفئدة مجرى اللهب، وتشتعل الصدور حنقًا على عجز اليد وتواكل الضمائر، وتتحرق القلوب توقًا إلى ثغر يشغلها وتشغله، فلا يتفارقان إلا بجنةٍ في الأسفل وفردوس في الأعلى.
ينادي البعض مرجفًا، -والمجد للصادقين أي رأيٍ حملوا-، ويستصرخ المرجفون وعلى وجوههم دموع وقحة، هانئين لا يعبؤون بأهليهم، ولا يحملون همًّا سوى السهرات القادمة، واللقاءات الرفيعة مع ذوي العلاقات العامة، في أبراج تنطح السحاب وتناطح قدرة الله زورًا وبهتانا، ملبسين الضحية ثوب الجاني، ومنفّرين عن الباذلين أرواحهم وفلذات أكبادهم وزهرات أعمارهم، ومهاجمين الذين يدافعون عن الأرض ويذودون عن أهلها، متخيّرين من وسط كل غزة البسطاء الذين تعبوا، فيركبون على ظهورهم لنيل أهدافهم التي تحاك في فنادق السبع نجوم، متسلقين في خروجهم من غزة، ومتسلقين في محاولات الحديث عنها، ومتسلقين في الإعاشة على سيرتها، آملين أن ينالوا خيرًا، ولن ينالوا خيرا.
يصوّرون حمل السلاح أنانية، وقتال العدو نرجسية، والموت مجهولين في ساحات الوغى تعظيما للذات، يعكسون المتناقضات، ويناقضون أنفسهم، ولو كانوا في زمن الدجال لما لبثوا بضع دقائق قبل أن يخلدوا في النار طويلا، من مخالفتهم الحقائق وتزييفهم الواقع، ينادون “سلموا أسلحتكم” وكفى مفاوضات، دعوا غزة وأهلها يتحكمون بمصيرهم، ويكأن المقاتلين، الألوف المؤلفة، وأهليهم مئات الآلاف، عبارة عن مرتزقة من تشاد، أو مقاتلين من بوكو حرام، أتوا إلى ما بين رفح وعسقلان ليمارسوا هواية الرماية والصيد بالرصاص، ثم عليهم حين يغضب البعض أن يكبوا في البحر، أو يلقوا إلى الخارج!
ثم يا سيدي، على سبيل الفرض الجدلي، وتجاوز الواقع إلى الخيال الجامح، إذا كانت المفاوضات، وفي يدنا السلاح، في عالم سافل لا يوفر ضمانات، ومع عدو سافل لا يحفظ العهود، يمكنها أن تعطينا مكاسب كتحرير أرض احتلت بعد حرب شعواء، وتحرير أسرى تعتقوا في السجون منذ عشرات السنين، وإخراج قادة جدد يكتبون عهدا جديدا من النضال والمقاومة، أو يصلون مستقبلهم بزمنهم الذي مضى، فيكملون حلقات المدفعة، وإن كانت المفاوضات تساعد في كسر إرادة المحتل المتعجرف، الذي يغطرس في البلاد والعباد دون رادع، وإذا كانت ترغم أنفه، فدعك منها، ومما كسبت بيديها، ومن ذلكم كله، هاهم -معاذ الله- ألقوا السلاح، فما الذي تضمنه أنت دونهم من دون سلاح؟
يعني -وأعرف أني حين أحدثك فإنما أحدث عقولا ضحلة- إذا كان السلاح وهو على الطاولة يفرض شروطا ويرسم حدودا ويفك قيودا ويضع محاذير وبنودًا، فما الذي سيضيفه إلقاء السلاح من على الطاولة، وما المكاسب التي ستجنيها “بالسلام” الذي لمت الضحية على عدم جلبه طوال هذا الوقت؟ تسلم أنت الدفة، وقُد الحكم، كما الضفة، وأرني ماذا ستفعل، غير التخلي عن الذي لم يسعفك الوقت التخلي عنه سابقا، دون الـ77٪ التي ضيعتها من فلسطين، ودون العشرين المتبقية التي لا حكم لك فيها ولا سلطة، واسمك السلطة!، لدرجة عدم القدرة -رغم ما قدمت من قرابين هي جثامين أهلك وأبناء مخيماتك وشعبك- على التحليق دون إذن رئيس وزراء إسرائيل، ثم لا يأذن، فتذعن، وتكاد تقطع الأراضي بين الحواجز ونقاط التفتيش على قدميك. (للأمانة ضحكت، ولكن ليس كل ما يحدث يعكس على الأوراق، تماما كفلسطين التي باعوها على الورق، ثم حين أرادوا حكم المتبقي منها فداء الضائع، سلموهم أوراقا أيضا، لا تشغل حيزا إلا من صناديق القمامة).
نعم، أخبرني، ماذا ستجني حين يلقي الرجال سلاحهم؟ ماذا ستجني حين يسلمك العدو سلاحه بنفسه لتقاتل بالوكالة عنه أبناء بلدك، وتغير لعرباته المصفحة البناشر، وتتحول إلى مسخ تحت قدميه؟ هو حتى لا يرضى في تلك الحالة؟ ماذا تبقى لك من المنطق وقد ذهب عقلك كله بخمر السلام المعتق؟ ماذا تبقى من “حسك الوطني” وقد فرغ قلبك من الله ومن أرض الله ومن عباد الله ومن رجال الله؟ ماذا تبقى من بدنك وقد أعيته الخمارات وأسكرته القينات حتى فتكت به بين رام الله ورامات الشيطان؟
ماذا لو ألقت غزة سلاحها؟ فلم تجد سلاحا، ولم تجد غزة؟ على أي أرض ستبكي؟ وأي مكسب ستحوز؟ وإن غزة لا تبقى اليوم سوى لأنها تقاوم، بترابها وكتابها، وإن غدًا به وعدها الصدق، ونصر الله الحق، ولأن سلاح الإنسان هو ذاته، متى حمله، لم ينفصل عنه إلا حين يموت، أو يموت بالأحرى -ولو عاش- حين ينفصل عنه، إذ شرف الرجل بارودته، وعز الرجل جسارته، وأهل الرجل كرامته، وتلك شؤون لا يدركها المغيبون، فثمة هوة ساحقة بين المدجج بالسلاح، والمدجن بالصياح.