سياسة
تأرجحت سوريا تاريخياً بين فترات من الانفتاح على الآخر والسعي نحو التغيير في المشهدين السياسي والاقتصادي، وفترات أخرى من الانغلاق والجمود والتقوقع حول الذات. هذا التناوب لم يكن عشوائياً، بل نابع من موقع سوريا الجيوسياسي الحساس، الذي جعلها عرضة لصراعات داخلية وخارجية، وفتح أمامها أبواباً للفرص كما للنكسات. يشعر السوريون، وبحق، بمرارة ما يجلبه هذا الموقع من مآسٍ، ولكنهم في ذات الوقت لا يغفلون عن البركات المحتملة الكامنة فيه. وبين تلك المفارقة، تنشأ استجابات نفسية وسلوكية متنوعة لدى الفرد السوري: منفتحاً حيناً، ومنغلقاً حيناً آخر، تارة بدافع الأمل، وتارة كآلية دفاع من أجل البقاء.
إن أي مجتمع، بطبيعته، يحتاج إلى قوى متعارضة ومتوازنة: تيار محافظ يحافظ على البنية الاجتماعية والاقتصادية القائمة، ويمنع الانهيار أو التفتت، وتيار آخر يتبنى التغيير ويدفع باتجاه التطوير والإصلاح. وغالباً ما يتحول ما كان يوماً ما مطلباً ثورياً أو فكرة تغييرية إلى جزء من التراث الثابت في الوعي الجمعي، فيتولى التيار المحافظ الدفاع عنه لاحقاً كما يدافع عن مقدسات المجتمع. إنها حركة التاريخ الدائمة التي لا تعرف الثبات.
وعند التأمل في المشهد السوري في السنوات القليلة الماضية، يلفت النظر بروز رغبة واضحة لدى شريحة من جمهور الثورة، خاصة أولئك الذين دفعوا أثماناً باهظة ووقفوا في الصفوف الأولى في مواجهة آلة القمع الأسدي، في تثبيت الوضع الراهن أو إعادة تشكيله بصورة أقرب إلى ما كان عليه قبل سقوط النظام، ولكن بعناصر جديدة. هذا الميل النفسي نحو إعادة إنتاج النموذج الشمولي، حتى وإن بدا أكثر نعومة أو تحضّراً، يعكس حاجة داخلية للشعور بالأمان والاستقرار، ولو بثمن التراجع عن بعض أهداف الثورة الجوهرية.
رغم موقع سوريا الاستراتيجي الهام، فإن النظام البعثي السابق تعمّد عزل البلاد عن التأثيرات الخارجية، وبنى جدراناً أمنية ونفسية شديدة الشبه بما شهده الاتحاد السوفيتي وكوريا الشمالية. كان هناك عداء واضح لكل ما هو خارجي، وريبة تجاه أي أجنبي يزور البلاد. حتى الجاليات السورية في الخارج والطلاب المبتعثين كانوا تحت رقابة لصيقة، في محاولة لعزل السوريين عن أي أفكار قد تشكل خطراً مستقبلياً على النظام. وقد انعكست هذه السياسة في علاقات النظام الإقليمية، حيث كانت معظم دول الجوار في حالة توتر أو عداء معه، باستثناء تحالفاته الانتقائية التي خدمت أهدافه الخاصة.
لبنان، على سبيل المثال، كان ساحة التدخل المفضلة للنظام، لأنه يمثل أقرب النوافذ الثقافية والسياسية إلى العالم الخارجي. وبدلاً من أن يكون جسراً للتواصل، حوّله النظام إلى ساحة تصفية حسابات ومنصة لإحباط أي محاولة تغييرية قد تمتد إلى الداخل السوري. هذه العزلة السياسية والثقافية كان لها أثر عميق في تشكيل الشخصية السورية المعاصرة، التي وجدت نفسها أمام خيارين: الثورة أو الانكماش.
في سياق تاريخي أوسع، يشير عدد من الباحثين إلى أن العزلة والانغلاق في بلاد الشام لم تكن وليدة العقود الأخيرة فقط، بل سبقتها موجات من الانكفاء عقب الحروب الصليبية التي استمرت لما يقارب قرنين من الزمن. هذه الحروب خلّفت آثاراً ثقافية ونفسية عميقة، من بينها الانكماش أمام أوروبا المسيحية، وانحسار الوجود المسيحي المشرقي في المنطقة بشكل لافت، رغم كون الحكام في تلك الفترة من المسلمين. لقد زرعت تلك الحروب خوفاً تاريخياً دفيناً من الآخر، ترسّخ في الوعي الجمعي، وولدت حالة من العداء للغرب امتدت آثارها لقرون.
هذا الرفض المتجذر للتواصل مع الخارج بلغ ذروته في تصريحات بعض مسؤولي النظام السوري إبان الثورة، مثل تلك العبارة الشهيرة لوزير الخارجية آنذاك: “سوف نمسح أوروبا من على الخارطة”، وهي عبارة ليست مجرد تعبير عن العداء، بل عن رؤية انعزالية تؤمن بأن البقاء يكون بالانغلاق لا بالانفتاح. لم تتجه سوريا في تلك السنوات لا إلى الشرق ولا إلى الجنوب، بل اختارت الانكماش، ووجد النظام في هذا الخيار ضالته، إذ ضَمِن له استمرار السيطرة لسنوات أخرى. لكنه، في نهاية المطاف، لم يمنع السقوط.
في هذا السياق، تستحضر الذاكرة التجربة اليمنية تحت حكم الإمام، الذي منع القراءة والكتابة خوفاً من انتشار الأفكار. إننا أمام نمط متكرر من الحكم القمعي، الذي يرى في الفكر والمعرفة خطراً داهماً، وفي العزلة سبيلاً للبقاء، فقد اعتقد الإمام أن منع القراءة والكتابة سوف يحفظ اليمن من التغيير ومشاقه ويستريح، إلا أنه دفع البلاد إلى ثورات وانقلابات شديدة التطرف في ولعها بالتغيير، وكان غريباً للمراقب أن يرى أن هذا البلد حوى أبرز الأنظمة المنغلقة (حكم الإمامة) ونظام اليمن الجنوبي الماركسي الذي أصبح أكثر الأنظمة العربية قرباً من الاتحاد السوفيتي، وعداءً للأنظمة العربية المحافظة.
وعلى النقيض من فترات العزلة والانغلاق، شهدت منطقة الشرق الأوسط في أواخر العهد العثماني حالة من الانفتاح النشط على الغرب، خاصة في الحواضر الكبرى كدمشق وبيروت وإسطنبول والقاهرة. فقد بدأت مظاهر التحديث والتأثر بالأنظمة الغربية في التشريعات والتعليم والعمارة وحتى أنماط الحياة اليومية تتسلل إلى نسيج المجتمعات. أنشئت المدارس الأجنبية، وظهرت الصحف، وبدأت حركة الترجمة والنقاشات الفكرية حول مفاهيم الحرية والدستور والدولة الحديثة. هذا الانفتاح لم يكن مجرد استيراد سطحي، بل كان تفاعلاً جاداً مع الأفكار الأوروبية، ومحاولة لإعادة تعريف الهوية العربية والإسلامية في ضوء تحديات العصر. ومع أن هذه المحاولات كانت محدودة الأثر بفعل مقاومة القوى التقليدية، إلا أنها أرست أسساً لنهضة فكرية وسياسية لاحقة، لا تزال تأثيراتها حاضرة إلى اليوم، وتثبت أن شعوب المنطقة كانت قادرة دوماً على التفاعل الخلّاق مع الحضارات الأخرى متى توفرت لها الظروف الملائمة.
يثور جدل فكري عميق منذ عقود حول طبيعة المنتوج الفكري الغربي: هل هو منتج محلي نشأ في سياق اجتماعي وتاريخي خاص، وبالتالي لا يمكن فصله عن البيئة التي أفرزته؟ أم هو منتج إنساني، يحمل في جوهره مبادئ وقيم قابلة للتطبيق في أي مكان من العالم؟ ينقسم المفكرون في هذا السياق إلى فريقين؛ أحدهما يرى أن مفاهيم مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والدولة الحديثة، هي تعبير عن تجربة غربية لا يمكن نقلها دون تشويه أو فقدان المعنى، بينما يرى آخرون أن هذه المفاهيم رغم نشأتها الغربية، إلا أنها تجيب على أسئلة إنسانية كونية، وتلبي حاجات البشر في كل مكان، ما دامت تُعاد قراءتها وتكييفها مع الواقع المحلي. ولعل المأساة التي عاشتها سوريا، بكل آلامها وتضحياتها، تطرح من جديد هذا السؤال المحوري: هل الحل في استنساخ نماذج جاهزة، أم في إنتاج صيغة محلية من التحديث تنبع من الخصوصية السورية ولكنها لا تعادي التقدم العالمي؟
في الآونة الأخيرة، تحدثت شخصيات سورية بارزة عن التغيير في سوريا ومساره المرتقب، وحمل الحديث شكاً لا يمكن إغفاله في التغيير نفسه وبرغبة القائمين على الحكم الحالي فيه، وإشارة ضمنية إلى مسار الانعزال الذي يشق طريقه بصمت في المجتمع والدولة في سوريا. إن النبرة الناصحة لهذه الشخصيات التي عاشت خارج سوريا هي نفسها النبرة التي كانوا يتحدثون بها إلى النظام السوري قبل 2011، انطلاقاً من فكرة أن التغيير يملكه ويتحكم فيه من لديه مقاليد الحكم والسلطة فقط، وقد أثبت استجداء التغيير من نظام بشار الأسد كونه يحمل الفرصة الأخيرة قبل الثورة خطأه، وسارت رياح التغيير بنا لا تشتهيه سفن النخب السورية التي كانت ترغب بالبناء على إرث نظام الأسد ومكاسبه، خلال عقود حكمه. ويبدو أن التغيير حالياً يسير بخطى واثقة في اتجاه بعيد تماماً عما تريده هذه النخب المحطمة والهشة، إلى مثال جديد يجمع بين تغيير وانعزال ليشكل نموذجاً سورياً لا يشبه أي نموذج آخر، ولا يمكن التنبؤ بمكان سوف يقف أو يختار إحدى جهتي النقيض بناءً على انطباعات أربعة عشر عاماً من الحرب والثورة والتحطيم. إن هذه المآسي الكبرى هي من تغير نفسية الشعوب لتتقبل فكرة التغيير وتواجهها أو تبتعد عنها معتقدة أنها تتجنب المزيد منها بالعودة في الاتجاه المعاكس.
وختاماً، تبقى ثنائية الجمود والتغيير حاضرة بقوة في المشهد السوري، لا بوصفها مجرد ظاهرة سياسية، بل كتجربة وجودية يعيشها السوري يوماً بيوم. وبين من يتمسك بالثابت خوفاً من الضياع، ومن يدفع نحو المتغير بحثاً عن حياة أفضل، تتشكل ملامح الحاضر والمستقبل السوري، بدون إغفال العوامل النفسية التي تبدو أهم في الواقع من العوامل الفكرية.