سياسة

ما بعد الغياب: كيف سيعيد انسحاب واشنطن رسم ملامح الجزيرة السورية؟

أبريل 21, 2025

ما بعد الغياب: كيف سيعيد انسحاب واشنطن رسم ملامح الجزيرة السورية؟

باتت المدرعات والدوريات الأميركية مشهدًا مألوفًا خلال السنوات الماضية في مناطق شمال وشرق سوريا، لكن هذا المشهد قد يصبح من الماضي قريبًا. فمع إعلان واشنطن اليوم بدء تخفيض عدد قواتها في تلك المناطق، تتجه الأنظار إلى الجزيرة السورية لمعرفة كيف سيُعاد رسم خارطة التحالفات والنفوذ فيها بعد غياب القوة الأميركية التي كانت لاعبًا رئيسيًا هناك. منذ عام 2015، شكّل الوجود الأميركي دعمًا حاسمًا لقوات سوريا الديمقراطية في دحر تنظيم داعش شرق الفرات، وأسّس لكيان شبه مستقل خارج سيطرة دمشق، كما لعب دورًا استراتيجيًا في صدّ النفوذ الإيراني وحماية المصالح الأميركية في مناطق النفط والغاز. إضافةً إلى ذلك، شكّل الوجود الأميركي عائقًا أمام التهديدات التركية. أما الآن، ومع التغيير المرتقب، تبرز تساؤلات حاسمة حول التداعيات المحتملة: من سيملأ الفراغ؟ وكيف سيتأثر توازن القوى الإقليمي؟ وما مصير الإدارة الذاتية ومكونات السكان المحليين في مرحلة ما بعد الانسحاب؟



أسباب الانسحاب وتداعياته


قرار واشنطن بتقليص قواتها في الجزيرة السورية يعكس توجهًا انعزاليًا متزايدًا في السياسة الأميركية، خاصة مع عودة إدارة ترامب التي تسعى لإنهاء التدخلات الخارجية والتركيز على الداخل الأميركي. كما يُنظر إلى القرار كاستجابة لمطالب تركية قديمة بالحد من الدعم المقدّم لقوات سوريا الديمقراطية، في ظل علاقات إيجابية تربط أنقرة بالإدارة الجديدة. ترى واشنطن أن مهمتها الأساسية، وهي محاربة داعش والحد من النفوذ الإيراني، قد أُنجزت بدرجة كافية، ما يبرر انسحابها.

ويأتي هذا التحرك في ظل غياب غطاء قانوني دولي لتواجدها، كما يُثير الانسحاب تساؤلات حول مصير السيطرة على موارد النفط والغاز التي لطالما شكلت ورقة نفوذ أميركية استراتيجية ضد النظام السوري وإيران. وقد رُصد إغلاق قواعد كبرى مثل العمر وكونيكو، وتقليص عدد الجنود من 2000 إلى نحو 1400، ما يعزز الانطباع بأن الانسحاب هذه المرة أكثر جدية.



لكن على الأرض، لا يبدو أن الانسحاب سيُترك لفراغ مفتوح كما كان في عهد النظام السابق، إذ تؤكد حكومة الشرع الجديدة أنها الجهة الوحيدة المخوّلة بملء هذا الفراغ، وترفض أي تدخل خارجي دون تنسيق مباشر معها. ومع تنامي التنسيق الأمني بين دمشق الجديدة وأنقرة، تُعاد هندسة الترتيبات على نحو أكثر توافقًا مع الوقائع الإقليمية. وربما تتراجع واشنطن ميدانيًا، لكنها تظل حاضرة في رسم التوازنات، في مرحلة انتقالية تُدار بحذر بين الحكومة الجديدة وشركائها الإقليميين وبرضى أميركي ضمني.



مصير الإدارة الذاتية وقوات “قسد” بعد الانسحاب


يشكّل الانسحاب الأميركي تحولًا وجوديًا للإدارة الذاتية الكردية وقوات “قسد”، التي اعتمدت منذ تأسيسها على الدعم العسكري والسياسي من واشنطن كضمانة ضد تهديدات تركيا والنظام السوري السابق، وتأمين الدعم السياسي والأمني. ومع زوال هذه المظلة، تجد نفسها مكشوفة أمام خصوم أقوى، ما يثير تساؤلات حول قدرتها على الصمود منفردة، خاصة أنها تفتقر لقدرات دفاعية كافية، كما أظهرت تجارب عفرين ورأس العين.



لذلك بدأت الإدارة الذاتية التواصل مع دمشق لتأمين مستقبلها، وحاولت عبر توقيع اتفاق بين مظلوم عبدي والرئيس الشرع مطلع مارس الماضي إظهار جانب من المرونة السياسية المناسبة لسيناريو الانسحاب الأميركي المتوقع. رغم تفضيل “قسد” لبقاء القوات الأميركية، إلا أن الجناح المتشدد في حزب العمال الكردستاني يبدي استعدادًا للقتال إن لزم الأمر، عبر مواصلة حفر الأنفاق والتجنيد الإجباري وخطف القاصرين، رغم إدراك صعوبة المعركة دون دعم خارجي. بعض المكونات العربية قد تنشق، والموارد الاقتصادية معرضة للضياع.



السيناريو المتفائل يتمثل في انسحاب تدريجي يمنح وقتًا للتفاوض، وربما وساطة أوروبية أو أميركية لتأمين موقع لقوات “قسد” في سوريا المستقبل. أما السيناريو الأسوأ، فهو تصفية الكيان الإداري الكردي عبر اتفاقات إقليمية تُنهي تجربة الحكم الذاتي الذي بدأ بدعم من نظام الأسد المخلوع عام 2013، لصالح ترتيبات جديدة تفرضها قوى أكبر.



تأثير الانسحاب على السكان المحليين ومكونات الجزيرة


لن تقتصر تداعيات الانسحاب الأميركي على توازنات القوى، بل ستطال الحياة اليومية والمصير الجماعي لسكان الجزيرة السورية بمختلف مكوناتها من كرد وعرب وسريان وغيرهم. خلال سنوات الحرب، وفّر الوجود الأميركي ضامنًا لمنع صدامات عرقية بين مكونات المنطقة، خاصة مع تسجيل انتهاكات واسعة من “قسد” بحق أبناء عشائر المنطقة، رغم أنه ترافق مع تحديات داخلية بين المكونات. ومع غياب الحماية الأميركية، تواجه هذه المجتمعات مرحلة غامضة.



الكرد هم الأكثر قلقًا، إذ يخشون فقدان مكتسباتهم الثقافية والسياسية، وعودة التهديد التركي أو الإقصاء الوطني من الحكومة السورية الجديدة. ويعزو البعض تلك التخوفات إلى استئثار قيادة “قسد” من كوادر حزب العمال بالقرار السياسي الكردي، مستغلين ضعف بقية الأحزاب، ونجاحهم في تحييدها على مدى سنوات حكمهم للمناطق الكردية في الجزيرة السورية.



العشائر العربية في الجزيرة السورية يبدو أنها تتجهّز بشكل فعلي لاستغلال الانسحاب الأميركي والثورة ضد “قسد”، نتيجة تراكم مجموعة من المظالم التي مارستها “قسد” بحقهم خلال السنوات الماضية. ورغم وجود بعض الشخصيات العربية في قيادة “قسد” و”مسد”، إلا أنها غير فاعلة ومقلمة الأظافر. وتبرز نقطة قوة العشائر أن شبابها يشكلون أكثر من 60% من مقاتلي “قسد” على أقل التقديرات، ما يهدد بتفكيك “قسد” ككتلة، وبقاء وحدات حماية الشعب الكردية منفردة، فيما يتجه عدد كبير من وجهاء العشائر للتقارب مع دمشق. ويُخشى من هذا السيناريو أن يتم استغلال ذلك لخلق فوضى أمنية أو اللجوء لإطلاق معتقلي تنظيم داعش من قبل الجناح المتشدد في حزب العمال الكردستاني لخلط الأوراق.



أما السريان والآشوريون، فقد استفادوا من الحماية النسبية في ظل وجود الأميركي، رغم أنهم تعرّضوا لتهجير كبير من المنطقة، وقد يفضلون عودة الدولة المركزية كضامن تقليدي لحمايتهم، رغم ترويج إعلام “قسد” أن الإدارة الجديدة تنكّل بالأقليات الدينية والعرقية. وبالفعل، بدأت المنظمة الآثورية فتح قنوات تواصل فعالة مع دمشق لتأمين وجودهم وحقوقهم، لمنع موجة هجرة جديدة قد تفقد الجزيرة أحد أبرز مكوناتها التاريخية.



السيناريوهات المستقبلية المحتملة للمنطقة


بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر، برزت حكومة سورية جديدة بقيادة أحمد الشرع، مدعومة من محور سعودي-قطري-تركي، واتخذت موقفًا معاديًا لإيران، ما فتح الباب أمام تقارب مبدئي مع واشنطن. ورغم أن الاعتراف الأميركي الرسمي لم يصدر بعد، فإن إدارة ترامب وضعت شروطًا واضحة لرفع العقوبات، من بينها التعاون في الحرب على الإرهاب، إنهاء دعم الفصائل الفلسطينية المرتبطة بإيران، وضمان تمثيل سياسي متوازن وفصل الدين عن الدولة. وقد رصدت تقارير صحفية مؤخرًا تنسيقًا استخباراتيًا بين الطرفين، مكّن دمشق من إحباط عدة هجمات لداعش، في مؤشر على شراكة أمنية ناشئة.



في هذا السياق، ومع إعلان واشنطن تقليص وجودها العسكري في شرق سوريا، تبدو المنطقة أمام مرحلة جديدة يعاد فيها رسم الترتيبات الأمنية والسياسية. وفي ضوء هذه التطورات، يمكن تصوّر ثلاثة سيناريوهات رئيسية ستحدّد شكل المرحلة المقبلة في شمال شرق سوريا، خصوصًا مع تراجع الدور الأميركي وتصاعد الحراك الإقليمي والداخلي.



  1. عودة الدولة السورية وبسط سيطرتها الكاملة:

في هذا السيناريو، تستثمر دمشق انسحاب الأميركيين وتنفّذ اتفاق عبدي–الشرع بدعم إقليمي، مع تفعيل أكثر للشراكة مع واشنطن في محاربة تنظيم داعش والتعاون في مواجهة النفوذ الإيراني. من الممكن أن تقبل واشنطن بدخول حكومة دمشق وبسط سيطرتها على المنطقة دون منح الإدارة الذاتية أي شكل من الحكم الذاتي أو اللامركزية. تقضي الصفقة بدمج قوات “قسد” ضمن الجيش السوري على شكل فرقة عسكرية خاصة، مع تسليم كامل للمؤسسات والموارد، ودمج الإدارات المحلية في الهياكل الحكومية الرسمية. هذا المسار يحافظ على وحدة الدولة السورية ويفي بتطلعات حكومة الشرع، مع الحفاظ على استقرار المنطقة وحفظ حقوق جميع مكوناتها.



  1. تعثّر تنفيذ الاتفاق وصراع داخلي يمهّد لتدخل تركي:

إذا فشل تنفيذ اتفاق عبدي–الشرع، تتفجّر خلافات داخلية بين أجنحة “قسد”، خاصة بين التيار التابع لحزب العمال الكردستاني وتيار أكثر براغماتية. هذا الانقسام يُضعف “قسد” ويؤدي إلى صراع داخلي تستغله تركيا لشن عملية عسكرية، دون معارضة أميركية، وبدعم مباشر من حكومة الشرع تحت شعار محاربة حزب العمال. في هذا السياق، يُستثمر المكوّن العربي داخل المنطقة لدعم تحركات مناهضة للهيمنة الكردية، ما يسرّع من تفكك الإدارة الذاتية، ويُعيد تشكيل السلطة المحلية بقيادة عربية، متماشية مع التوجه الإقليمي، رغم أنه يحمل خسائر كبيرة للمدنيين والبنية التحتية.



  1. بقاء أميركي محدود وتأجيل تنفيذ الاتفاق:

في هذا السيناريو، تُبقي واشنطن على وجود عسكري محدود في مناطق معينة وتعزز التعاون مع الحكومة السورية ببطء، مع استمرار دعم “قسد” مما يؤخر تنفيذ اتفاق عبدي–الشرع دون إلغائه، ويعطي مظلوم عبدي وقتًا للمماطلة وفق ما طلبه لثلاث سنوات. ولكن يؤدي هذا الوضع إلى حالة من اللاحسم، ترافقها توترات داخلية متزايدة: تصاعد الاحتقان بين “قسد” وبعض العشائر العربية، وعودة نشاط خلايا داعش في ظل فراغ أمني نسبي. تدخل المنطقة في حالة من التوتر وعدم الاستقرار، بلا تسوية سياسية نهائية ولا انهيار تام، ما يُبقي الجزيرة السورية عالقة في مرحلة انتقالية مرشّحة للانفجار في أي لحظة.



في المحصلة، لن تكون الجزيرة السورية بعد الانسحاب الأميركي كما كانت قبله. نحن أمام عملية إعادة تشكيل كبيرة لخريطة القوى في هذه المنطقة الحيوية. السيناريو الأكثر تفاؤلاً يتجسد في انتقال سلس لسلطة الحكومة في دمشق عبر تسوية سياسية شاملة، تجنب المنطقة وقوع مزيد من الدمار وتضمن حقوق سكانها ضمن دولة سورية موحدة. هذا يتطلب جهودًا دولية حثيثة وضغطًا على جميع الأطراف لتقديم التنازلات اللازمة، إلى جانب تعزيز التعاون بين دمشق وواشنطن. أما السيناريو الأسوأ فهو انزلاق المنطقة إلى صراع متعدد الأطراف، مما قد يجعلها ساحة حرب مفتوحة، حيث سيكون المدنيون هم الخاسر الأكبر بعد سنوات من القتال والحصار.



ومع انسحاب واشنطن، ستُعاد صياغة ملامح الجزيرة السورية بناءً على توازنات تُرسم إما بالحوار أو بالنار. ومن غير المستغرب أن يُختتم فصل الصراع بمشهد معاكس لما بدأ به، إذ تغادر أرتال الانسحاب الأميركي اليوم بهدوء من طرقات الجزيرة باتجاه الحدود العراقية، تاركة الساحة لقوى تنتظر دورها. إنها لحظة فارقة ستُحدّد نهاية مرحلة وبداية أخرى في تاريخ الصراع السوري الذي يستمر منذ عقد كامل. ويبقى الأمل معقودًا على أن يُرسم مستقبل الجزيرة السورية هذه المرة بمداد السياسة والعقلانية، لا بدماء وحروب جديدة في أرض عانت بما فيه الكفاية من المآسي

شارك

مقالات ذات صلة