مقالات سوريا
استيقظت أخيراً على وقع صدى صوتِ بائع الخردة وانتهى الحُلمُ الذي ما فتئ يرافقني على مدار أكثر من عشر سنينٍ في الغربة، حيث كنتُ أجدُ نفسي أصعد درجاتِ الحارة مُقترباً من منزلنا ثم استيقظُ في منفاي ولا أجدُ من الوطن إلا غصّةً مكتومة التعابير.
“يلي عندو برّادة، غسّالة عتيقة للبيع. يلي عندو آظان عتيق للبيع”
ويمدّ حرف الياء وتمتدُ معه طفولتي كالعجينة تحت دورانِ الخشب عليها.
استيقظتُ ورأيتُ ضوءَ الضحى يعبرُ نافذة بيتنا الواقع على مشارف قاسيون، سمعتُ بعضَ أحاديثِ المارة وهو ما يميّز الطابق الأول في بلادي، والأهم من هذا كله تلك الذرات التي استنشقتها فحملتني إلى لحظة النشأة وتشكّل الخواطر والشعور، قبلَ أن أحملها لجوفي فتساعدني على استكمال الحياة.
ذرات الرائحة، تلك التي ترعشُ العقلَ وتشعل الفؤاد، تعانقُ الماضي فينا وتحضنُ الخوفَ تمدّهُ بالطمأنينة، تربّتُ على كتفِ نضجنا قائلةً: “اهدئ، فأنتَ هُنا، انتهى الحلم وعدتَ لحارتك، فلا تخشى إلا الرحيل وتشبث في كل زاوية”. وإذا أردنا تحليلها واصفين فحواها، فلن أقول إنها رائحة عبق الياسمين والنارنج وغيرها من روائحِ دمشق والبلاد، بل هي رائحةٌ مختلطة، تميزها العفوية الساطعة دونَ حجاب والكثير من تجاعيد المدينة وسواد إهمال قطعةِ ذهبٍ نفيسٍ، مازوتٌ مع خبزٍ مع فولٍ وحمّصٍ وفلافل وبعض رطوبة المباني القديمة، جلّ البلادِ قديم يبعثُ بهذه الرائحة الخاصة لأهلها كي يشعرهم أن ماضيهم محفوظ وما يزال هنا معهم، يصون ذاكرتهم ويصلهم بالفائت عبر خيطٍ من ذرات نستنشقها فتيقظنا وتقرصُ جلدنا فنعلمَ أننا عدنا للحياة، فقط بوجودها.
ويأخذني هذا الشجن إلى بحثٍ علميٍّ جرى في ولاية إلينوي. إذ توصلت شبكة “نورث وسترن ميديسين” إلى أن هناك صلة عصبية واضحة بين مركز الذاكرة في الدماغ والمناطق المسؤولة عن الشم، مما يفسّر كيف يمكن لرائحة عابرة أن تفتح أبوابًا منسية في الذاكرة. فهناك في زوايا الدماغ المعقدة، حيث تنسج المشاعر والذكريات خيوطها اللامرئية، تستقر البصلة الشميّة بهدوء بين طياتها، كأنها حارسة لبوابة الحنين. هناك، إلى جوار مركز الذاكرة، تحتل هذه البصلة الصغيرة موقعها الاستراتيجي، لا كعضو عابر، بل كراوية ماهرة للروائح، وصانعة للذكريات التي لا تمحى، ذكرياتٌ حاول السوريون الحفاظ عليها وتشبثوا بأطرافها إلى أن هبّت رائحة الوطن بعد نصرٍ وحرية.
وتتصل البصلة الشمية اتصالًا مباشرًا بما يُعرف باللوزة الدماغية، حيث تقيم المشاعر وتختمر الأحاسيس، ولهذا السبب، حين تمر رائحة عابرة أمامنا، لا تكون مجرد عبقٍ عابر، بل بابًا يُفتح فجأة على ماضٍ نائم، دمعة، وربما ابتسامة. وعلى عكس بقية الحواس، فإن الرائحة لا تنتظر ولا تتأخر، بل تنفذ مباشرة إلى موطن الشعور، لتوقظ الذكرى وتلهب العاطفة وتبعثر القلب في لحظة. هكذا يبدو الأنف البشري كأنف شاعر، يقرأ الذكريات المخبوءة في الروائح كما تُقرأ القصيدة، ويفكك عبيرها كما تُفكك المعاني، ويربط الرائحة بالذكرى، بالوجدان، بالطفولة، بالصدمة، بالحياة كلها.
عاد السوريون إلى ديارهم، وأخذت الذكريات التي بلغوا مراتب العناية العليا بها أماكنها المحفورة في خلجات الروح والفؤاد والعقل، ولكن لم تكن متشابهة، ولن تكون كذلك أبداً. فجارتنا التي فقدت ابنها وزوجها، عادت لتجدَ رائحتهم في المكان، وأثرهم على الأدواتِ والأغراض، دون أجسادهم. فكما تُنعش الروائح ذكريات الطفولة البهيّة، تيقظُ الموتَ الذي ربّتنا على جنباتهِ وأحطناهُ بأدعيتنا وقرآننا وصلاتنا، فتختلطُ فرحةُ النّصرِ بتلك الغصة القديمة، إلا أنها ممزوجةٌ بشيءٍ أحيا الذكرى أيما إحياء، وجددَ شعورَ الفقد أيما تجديد.
تقول جارتنا أم محمد في حي الصالحية: “أراهُ كلّ يومٍ واقفاً كعادته يتأمّلُ الشارع، لا أستطيعُ إلا أن أراه، فأنا أشمّ رائحته في كافّة أرجاء المنزل، تحفظ الوسادات أنفاسه الطاهرة، والخزانة لا تنسى عطره المعتق في خشبها المهجور لسنين”.
وكما أم محمد، تعيشُ آلاف الأمهات في مثل هذا الشعور، يحتسبنَ أمرهنّ عند الله المنتقم الجبار، ويحاولن الفرحَ، كرامةً للشهيد وانتصاراً لدمه الشريف.
“هناك رائحة ما”
وللاتصال العصبي بين الرائحة والذكريات جوانب قد تكون إيجابيةً وسلبية حسب الموقف، ففي دراسة أجرتها الباحثة “لورا شرود” عام 2012، أكدت أن الاتصال العصبي بين الرائحة والذاكرة يختلف من شخص لآخر، لكن المؤكد أنه لا يمكن تجاهله لأثره الممتد الواضح. وهذا يذكّرني بقول رياض الصالح الحسين في إحدى نصوصه التي يتحدث فيها عن رائحةٍ تميّزُ الوطن أو ترسمُ شكلاً من الانتماء في المخيلة، مخيّلتنا جميعاً:
هناك رائحة ما
ليست كرائحة الملابس القديمة
وبطاقات التعزية
والمستنقعات
رائحة ما…
حادَّة، متردِّدة، مسكينة
كدموع بنت تبكي دميتها المحطَّمة
رائحة…
تدخل غرفتي بخجل في الصباحات الباكرة
تغسل وجهي وتستمع مثلي لأغنية حزينة آتية من الأعماق
رائحة…
تذكِّرني دائمًا بجنود عائدين من الحرب
وبحر
وفتاة كانت تطاردني ضاحكة في حقول القطن..
هكذا، تظلّ الروائح رسل الذاكرة، ومفاتيح الحنين، لا تأتي عبثًا، ولا تمر دون أثر. بل هي خيوط خفية تربط القلب
بالوطن، وتعيد تشكيل اللحظة… بنفَسٍ واحد.
ولعلّني أختم بمقطعٍ شعريّ لممدوح عدوان من قصيدته: “مصياف”، من ديوانهِ “للريحِ ذاكرةٌ وَلِي” يتحدثُ فيها عن الريحِ وحملها للذكريات، وهو ما يتشابهُ مع حديثنا عن الرائحة، فالريحُ من تحملها إلينا، وهي خاويةٌ بذكرياتها، متعبةٌ بلا طاقة، تهبّ على الصفصاف وغيرها من النباتات، لتذكّرنا بوفاء العرب الموصوف والمتجذّرِ بدمائنا، فلا ننسى الشهيد، ولا نخون الوطن.. وتلك رسائل الريح وذاكرته:
والرِّيح في الأعطاف
ذكرى بلا طاقة
يبكي لنا الصفصاف
فنحنُّ كالناقة