عاش جيل كامل من الأطفال السوريين تحت وطأة الحرب التي دمرت البلاد وشتت الناس وجعلت الحياة الطبيعية صعبة أو مستحيلة، وفي ظل غياب الاستقرار الأسري والتعليمي تحولت شاشات الهاتف المحمول من وسيلة تواصلٍ وترفيه إلى النافذة الوحيدة التي يستكشف هؤلاء الأطفال العالم منها.
جيل تربّى على يد الشاشات:
بينما كان أطفال العالم يتعلمون من الكتب، ويرسمون في دفاترهم، ويخوضون تجاربهم الأولى في اللعب الجماعي، كان آلاف الأطفال السوريين يتنقلون بين خيمة وأخرى، أو يسكنون منازل محطّمة لا تصلح للسكن ولا للأحلام. العائلة مشتتة الأهل متفرقون لا حدائق، ولا فسحات لعب، ولا مدارس فعلية، وبينما كانت الحرب تدمر المنازل وتقتل الناس عرضت لهم تلك الشاشات عوالم مشوهة من العنف والفوضى فشاهدوها دون رقابة و لا مراعاة لأعمارهم ولا ظروفهم النفسية. ألعاب تروّج للعنف، ومقاطع تصور القتل والدمار، وتحديات سخيفة على منصات مثل “تيك توك” و”يوتيوب شورتس” تسخر من المعاناة أو تجعل من الخطر أداةً للفت الانتباه،
الطفل الذي لم يفهم بعد معنى الحرب، صار يشاهدها على الشاشة من زوايا أكثر قسوة: لقطات قصف، أشلاء، نداءات استغاثة، وضحك في الخلفية أحياناً. ثم يُقترح عليه، تلقائياً، الانتقال إلى مقطع “ترند”: طفل يؤدي رقصة، شاب يجرب تحدّي خطير، أو مؤثر يسخر من الفقر الذي يعانيه، او مشاهد ساحرة لأماكن وأشياء يتمناها، لا سياق، لا حساسية، لا فلترة.
هكذا، وجد الطفل السوري نفسه محاطاً بعالمين قاسيين: واقع مليء بالخوف والجوع والنزوح، وافتراضات رقمية تفرض عليه تصوّرات مشوهة عن النجاح، والبطولة، والمعنى. لم يعد التعلّم يأتي من التجربة الحياتية أو من المدرسة، بل من مشاهد مقتطعة من الإنترنت، تبني وعياً متسرعاً ومختلاً، بلا عمق ولا توجيه.
تشوه في الإدراك: ما الواقع؟ من أنا؟
حين يُربّى الطفل في بيئة واقعية محطمة وافتراضية مشوهة، تبدأ التساؤلات تتداخل في ذهنه دون أن يجد من يساعده على ترتيبها.
هل الواقع هو هذا المكان الذي يهرب منه الجميع؟
هل السعادة – التي لم يختبرها – هي ما أراه في الفيديوهات؟
هل الشهرة تعني الصراخ، أو الاستعراض، أو الخطر؟
لقد تغيّرت مفاهيم مثل “القوة” و”النجاح” و”القيمة الذاتية” لدى هذا الجيل، بفعل المحتوى الذي تعرض له لساعات يومياً دون رقابة أو حوار. وحين يغيب الوعي الأسري والمدرسي، لا أحد يشرح له أن ما يراه ليس حقيقياً بالكامل، وأن أغلب ما يُنشر لا يُشبه الحقيقة ولا يُناسبه أصلاً.
أعراض غير مرئية… لكنها واضحة
كثير من المعلمين والأهالي في سوريا، وكذلك العاملين في برامج الدعم النفسي، يتحدثون عن نمط متكرر من الأعراض لدى الأطفال:
– عزلة وانسحاب من الأنشطة الجماعية.
– اضطرابات في النوم والتركيز.
– ميل للتقليد الأعمى لما يُشاهد على الإنترنت.
– تراجع في المهارات اللغوية والاجتماعية.
– نظرة مشوهة للذات: إما مبالغ فيها أو منعدمة.
هذا لا يعني أن الشاشات وحدها هي السبب، لكن استخدامها في هذا السياق — كبديل عن الأمان، التعليم، اللعب، وحتى العلاقات — جعل منها عاملاً حاسماً في صياغة شخصية هشّة تبحث عن نفسها.
هل هناك أمل؟
ربما لا نستطيع إعادة عقارب الزمن، لكن بإمكاننا — ولو جزئياً — ترميم ما تبقى.
حين نوفّر للأطفال بدائل حقيقية: حكايات تُروى، ورشات رسم، مساحات لعب، جلسات دعم نفسي، وأنشطة تفاعلية… نُعطيهم شيئاً من التوازن. وحين نرافقهم في استكشافهم للعالم الرقمي، نوجّههم لا نمنعهم، ونشرح لا نؤنب، نمنحهم فرصة ليبنوا وعياً حقيقياً، لا نسخة مقلدة من الآخرين.
جيل ما بعد الحرب، أو ما بعد المعنى؟
ليس هذا الجيل ضحية الحرب فقط، بل ضحية الإهمال أيضاً. الحرب دمرت، نعم، لكن الإهمال سمح للألم أن يتجذّر، وللوهم أن يستقر مكان الفهم.
جيل “أطفال الإنترنت” بحاجة إلى احتواء لا لوم، إلى حوار لا تعليمات، إلى وجود حقيقي في عالمه المتعب، لا مجرد نداءات أخلاقية بعيدة.
السؤال الحقيقي الآن:
هل نملك الوقت والوعي لننقذ ما تبقى من طفولتهم؟
أم أننا سنكتفي بمشاهدتهم يكبرون في عزلة رقمية، وسط ذكريات حرب، وأصوات لم تُنصت لهم يوماً؟