مجتمع
احتفالاتٌ وصور من الأموي، والعلم العظيم تتوسطه النجوم الثلاث، يرفرف فوق القصر الجمهوري. لكن، ماذا بعد؟ بعد سقوط نظام الأسد المجرم، باتت تركته واضحة، فقد حصدت الحكومة الجديدة والشعب ما زرعه الأسد ومن قبله والده:
لأن نظام الأسد سعى طيلة فترة حكمه وحكم ابنه إلى زرع وتأصيل التفرقة بين مكونات المجتمع السوري. ولأن المجتمع السوري متنوع دينيًّا وثقافيًّا وعرقيًّا، كان لا بدّ للنظام المجرم أن يعمل على هذه التفرقة لضمان بقاء حكمه وتثبيته، بطرقٍ وحيل متعددة.
صدّر حافظ الأسد عن نفسه صورة الرجل العَلماني، حامي الأقليات، وفي الوقت ذاته حاول إرضاء الأغلبية السنية بتقربه من رجال دين محددين، مثل الشيخ أحمد كفتارو، الذي شغل منصب مفتي سوريا لأربعة عقود، وعُرف بقربه من حافظ الأسد قبل توليه السلطة حتى. وكان لهذا التقارب مصالح متبادلة كثيرة، فقد سهّل حافظ الأسد الكثير من نشاطات الشيخ وجماعته، مثل تأسيس مجمع أبو النور الإسلامي، وافتتاح كليات وفروع لها في دول عربية كثيرة، وهذا في دولة المخابرات أمرٌ مستحيل لولا مباركة حافظ الأسد وتسهيله لهذه المشاريع.
بالطبع، كانت مصلحة حافظ الأسد لا تقل عن مصالح كفتارو، إذ سعى النظام لكسب علماء ورجال دين يضمن ولاءهم وطاعتهم، لكن ضمن الحدود التي يريدها. فلم يسمح لهم ببناء منظومة علمية شرعية أو تطبيق المعرفة الدينية.
فحرص الأسد على تحويل الدين من كونه قوةً محتملةً للمعارضة، إلى آلية شرعية لتعزيز حكمه. ونذكر هنا محاولة تمرير الدستور عام 1973، بعد حذف المادة الثالثة منه، التي تنص على أن دين رئيس الدولة هو الإسلام. لكن هذا التعديل أخذ حافظ الأسد إلى مواجهة عنيفة مع بعض العلماء والمشايخ، الذين رفضوا بقوة هذا التلاعب بالدستور. فتراجع الأسد عن التعديل، وتوجّه لإصدار فتوى من الإمام موسى الصدر، وصرّح بأن الطائفة العلوية فرقة من فرق الشيعة الإثني عشرية، وبالتالي طائفة من طوائف الإسلام، ولاقت هذه الفتوى مباركة العديد من رجال الدين، ومن بينهم صديقه المفتي أحمد كفتارو.
بدلًا من السماح للمؤسسات الدينية بممارسة دورها النقدي والمستقل، قام النظام بتحويلها إلى أداةٍ لدعم شرعيته، إذ تمّ تزويد رجال الدين الموالين له بامتيازات ومناصب رسمية. فُوضع رجال دين موالون للنظام في مواقع استراتيجية داخل الهيئات الدينية، مثل الشيخ كفتارو وجماعته، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، مما ساهم في إعادة تشكيل الخطاب الديني بما يتماشى مع رؤية النظام البائد.
وهنا يذكر السوريون كثيرًا الصورة الشهيرة في المسجد الأموي لحافظ الأسد متأبطًا ذراع المفتي كفتارو عام 1988، أي بعد المجازر التي ارتكبها في حماة، محاولًا إعادة رسم صورته داخل الأوساط المتدينة ليظهر نفسه ليس عدوًّا للإسلام، ومحاولةً لتغطية ما سربته وسائل الإعلام العالمية عن المجازر.
عمل نظام الأسد على تقليص مساحة الحرية للموقف الديني المعارض، فقد تم استبعاد رجال الدين الذين يُعتبرون صوتًا مستقلًا أو معارضًا، مثل المشايخ سارية الرفاعي، وأسامة الرفاعي – الذي يشغل الآن منصب مفتي سوريا منذ آذار 2025 – فقد نُفيا مرةً في عهد الأسد الأب، ومرة أخرى بعد بداية الثورة السورية.
وقال الشيخ إسماعيل الزبيبي، الذي كان خطيبًا في مسجد بلال الحبشي في دمشق منذ عام 1995، وإمامًا ومدرسًا للفتوى منذ 1983، إنه كان يتناول في خطبه الواقع الداخلي والخارجي للبلاد، وكان كثير من كلامه يتعارض مع سياسات نظام الأسد. فكان يُطلب كثيرًا للأفرع الأمنية، حتى بداية الثورة المباركة.
وذكر أنه تناول أحوالها على المنبر قدر استطاعته، وكان ذلك دون طموحه كما وصف، لكنه واجب الوقت؛ ومع ذلك، كان ذلك فوق تحمّل عناصر الأمن، وقد هُدد من قبلهم بالاعتقال من أكثر من جهة.
ويذكر أن مدير الأوقاف حاول الوقوف معه ومع غيره من الشيوخ، حتى أُبلغ الشيخ الزبيبي من مديرية الأوقاف بدمشق بإيقافه عن الخطابة، بناءً على توجيه من مكتب الأمن الوطني في أيلول 2012، بتهمة التحريض على الدولة.
نفهم هنا كيف ساهم هذا التوجه في سياسات الأسدين في كبح نفوذ التيارات الإسلامية المعارضة، التي كانت تُعدّ منبعًا للتحدي السياسي. وبذلك تبدأ حقبة الاعتقالات الكبيرة، حيث أصبح أيّ مظهر من مظاهر التدين – كاللحية مثلاً – جريمة يُسجن الشخص بسببها، ناهيك عن الدروس الدينية في المساجد التي لا تخلو من أعين المخابرات.
وشاهدنا بعد سقوط النظام المجرم الكثير من التقارير المكتوبة بحق أشخاص عاديين أو رجال دين، من بينها تهم مثل كثرة ارتياد المساجد، أو طلب إطلاق اللحية.
كان الأمر أكثر تعقيدًا في عهد الأسد الابن، فقد حرص بعد بداية الثورة السورية عام 2011 على الظهور بكثرة في المناسبات الدينية وبين رجال الدين، مروّجًا لصورة الأمن والاستقرار والقبول الشعبي.
واستمرت هذه الاستراتيجية حتى أواخر 2011، حيث استخدم النظام رجال الدين لشيطنة الثورة، وتبرير قمع وقتل الثوار والمعارضين؛ مثل “مفتي البراميل” كما يسميه السوريون (أحمد حسون)، والشيخ البوطي أيضًا الذي قال إن جباه الذين يتظاهرون لا تعرف السجود.
فقدت هذه الفئة من رجال الدين حاضنتها الشعبية، وساهموا في خلق شرعية دينية زائفة تعزّز سلطة النظام وتخدّر الحسّ الثوري لدى الناس، معتمدين على التخويف من البديل.
وهكذا، تقسم رجال الدين إلى فئتين: فئة معارضة، مصيرها المعتقل أو المنفى، وفئة تخدم النظام وتثبّت شرعيته وتعزّز استقراره.
استكمل الأسد الابن ما بدأه النظام من زرع وتأصيل للطائفية، عبر توجيه الدراما لتخدم مصالحه. فقيّد الحريات والنقد السياسي في الثقافة عمومًا، ووجّه صناع الدراما لنقد الدين، لا السلطة.
فصورت الدراما المرأة المحجبة كمتخلّفة أو معنفة، وركزت على النفاق الديني والتطرف، كما في أعمال المخرج نجدة أنزور، مثل “ما ملكت أيمانكم”، وحلقات من “بقعة ضوء”.
ويقول الفنان نوار بلبل إن هذه الأعمال لم تنتقد سلوكيات رجال الدين فقط، بل سعت لتنميط طائفة معينة (السنية) دون غيرها، ولم يُنتج أي عمل ينتقد طوائف أخرى.
ويضيف أن النظام أراد إيصال رسائله عبر الدراما، فتضمنت تناقضات بسبب مصالحه وعلاقاته السياسية. وبعد صعود الجماعات المتطرفة، أصبحت الدراما وسيلة لشيطنة الثورة، وصورت المعارضين كمتطرفين أو “دواعش”، وصدّق الناس ذلك، حتى صُدموا بالحقيقة بعد التحرير في 8 كانون الأول 2024.
ويذكر السوريون كم مرة ازداد الجدل بين المجتمع المحافظ وصناع الدراما، وكان الأسد يقف بينهم ليظهر كحامٍ للدين من جهة، ومدافع عن حرية النقد من جهة أخرى، في مشهد يوهم بالتوازن بينما يعزز صورة النظام المطلوب تثبيتها.
مع كل التغيّرات التي مرت بها الثورة السورية، وصولًا إلى الثامن من كانون المجيد، كانت أولى وأكبر المخاوف التي تداولها الناس هي السلطة الجديدة وتوجهها الديني، بسبب ما زرعه النظام من صور نمطية عن هذا المكون السوري.
الكثير منهم لم يكن يعلم شيئًا عن إدلب أو عن استراتيجيات حكومة الإنقاذ هناك. فواجهوا وجهًا لوجه خوفهم الذي زرعه النظام.
منهم من احتفل بصورة جندي يحمل طفلًا، وكأنها حادثة مستحيلة، متناسين أن هؤلاء الشباب هم أبناء سوريا ذاتها.
ومنهم من بالغ في الترويج لفكرة التطرف، وتبنى الرواية الأسدية نفسها.
هكذا، كان أول تصادم بين مكونات المجتمع ذاته. وكان الاعتراف بإقصائنا المتعمد وجهلنا بالآخر صعبًا جدًّا، فكان تخدير هذا التصادم أسهل من معالجته. وعاد الانقسام لينفجر مجددًا في أحداث الساحل في آذار 2025 التي بدأها فلول النظام.
فعدنا منقسمين بين من برّر وشارك، وبين صوت العقل الذي ذكرنا أن هذا كله من تركة الأسد.
إن العنف، اللفظي والجسدي، ما هو إلا استمرار لحلقة العنف التي بدأها الأسد وعززها طوال فترة حكمه.
وهنا واجهنا حقيقة أنفسنا والآخرين، مواجهة “سوريا الجديدة” بتنوعها الثقافي والعرقي، وبداية محاولة التعايش والسلم الأهلي، في ظرف لا يُعدّ السلم فيه أولوية حقيقية.
في بلد ينهكه الفقر، والتفرقة فيه وقود لأي غضب مؤجل، محاط بالأزمات والاحتلال.
لكن يبقى الأمل: لأول مرة نمتلك وطنًا لنا، ولدينا الفرصة لبنائه بعيدًا عن الانقسامات. فرصة لتكون الحرية الدينية واقعًا محترمًا، لا شعارًا.
فرصة لرجال الدين لممارسة أدوارهم العلمية والدعوية.
فرصة لدراما تُشبهنا، كما قال نوار بلبل: تُوثّق الحقيقة وتكتبها من جديد.
فرصة لنعرف ونُفهم بعضنا بعضًا، على أمل أن نعيش في سوريا تُشبهنا.. سوريا لكل السوريين.