تأملات
أفكّر كثيراً في ماهية اختبار الإنسان على الأرض، هل لهذا الاختبار علاقة بالزمان والمكان والإحداثيات المادية المحسوسة أم أنّ ذلك الاختبار متعلّق بكينونتك الأزلية مذ خلقك الله في ( عالم الذرّ )؟
لقد ازداد تأملي لهذا الأمر حين حدثتني إحدى صديقاتي عن اكتشاف إصابتها بمرض نادر بينما هي في الخارج وقد ظنّت أنّها نجت من أتون الحرب، فقد تلطف الله بحالها وسافرت منذ بداية الحرب، تقول لي بحزن كبير في حديث طويل علق في ذهني منه ( لقد فقدت الإحساس بكلّ شيء)
وتوقفت هنا عند ماهية اختبارها في الحياة الدنيا سواء تحت الحرب أم خارج الحرب فاختبارها هو اختبارها. وتساءلت سؤالاً، هل لو كنتُ مثلاً لا أعيش في غزة، هل كان اختباري القدري سيتغير؟ بمعنى أنني ما كنتُ لأتعرض لتجربة فقدان أطفالي القاسية جداً في الحرب؟ إنّ قلبي يخبرني دائماً أنّه اختباري الشخصي، ولو كنتُ في الصين أو أمريكا فهذا هو نموذج اختباري الخاص مذ كنتُ في عالم الذرّ.
لو لم يكن والدك هو والدك، كان أيضاً سيكون لك والد آخر بنفس مواصفات والدك، ولو لم تكن ابنتك هي ابنتك، لكانت لك ابنة أخرى أيضاً بنفس مواصفات ابنتك، ولو لم تدخل المشروع الفلاني الذي خسرت به، لدخلت مشروعا آخر وخسرت به أيضاً.. لأنّ هذا هو اختبارك الذاتي الفرديّ المتعلق بك، لا أحد يستطيع حلّ هذا الاختبار غيرك، إنّه لا يُكشَف لغيرك، ولن يرى تلك الأسئلة سواك!
بمعنى أن كلّ شخص في غزة، الاختبار الذي تعرض له على صعيد كل شيء الفقد المادي والإنساني والخ، هو اختباره الشخصي، سواء اقتنع بهذا أم لا، لكنها الحقيقة، ولو كنت في آخر الدنيا واختلف الزمان والمكان كنت أيضاً ستتعرض للاختبار الخاص بك والمقدّر عليك، المهم أن تكون بطلاً وتنجح في اختبارك الفرديّ..
تحضرني صورة سيدنا إسماعيل وهو يقول لأبيه افعل ما تؤمر، وهو يسلّم عنقه لأبيه لينزل عند أمر الله بذبحه، وكيف أنّ نجاحه في اختباره هو ليس نجاحاً آنياً ظهر لنا بالتسليم والرضا، وإنّما هو نجاح باطنيّ قديم منذ الأزل، فأنت انعكاس لمدى نجاحك في اختبارك مذ كنت في عالم الذرّ .. وهكذا.
وهذه الاختبارات تتدرج في حياة المؤمن، في كل دقيقة هنالك اختبار، على أكثر من صعيد، بينك وبين نفسك، أوبينك وبين الآخر، وكلّ اختبار قبل أن يتفرع على الأرض بأشكال عديدة ومختلفة هو في أصله اختبار بينك وبين الله عز وجل.
ولكن الإنسان دائماً أمام اختبار دقيق قبل اختباره هل يستطيع رؤية الأسئلة في ورقة امتحانه أم لا ؟ للأسف لا يستطيع كلّ الناس أن يقرؤوا الأسئلة، وذلك حسب اتقاد البصيرة ومدى قدرتها على القراءة، كثيرون يرون أنّ ورقة اختبارهم فارغة، أو كثيرون لا يستطيعون قراءة الأسئلة وفك رموزها، بينما هنالك يستطيعون فعلاً قراءتها بوضوح وحلها بثبات وسكينة.
إنّ كل شيء يحدث معك وكلُّ تلقٍ تتلقاه لانعكاسات القدر على روحك وجسدك هو اختبار؟ سواء كان إساءة أو إحسان أو تصرف ما حدث خلال يومك
إنّ روحك تسير بين هذه الترددات بدقة متناهية، وإنّ الله عز وجل يعلم بكل نَفَس كيف تتنفسه وهو يراك وينتظر نجاحك دائماً ويفرح لك، والنجاح الأكبر لك في كل اختبار مهما صغر أو عظم (أن ترضى).
إذا وقع كأسُ شاي تحبه من يدك قبل أن ترتشف منه أي رشفة، عليك أن تعلم أنّك أمام اختبار بعد انسكابه، وهو أن تقول الحمد لله قبل أن يملأ الحزن قلبك على الشاي المسكوب، فينتصر رضاك على حزنك واعتراضك، قد يبدو أمراً بسيطاً وسهلاً لكنّه عظيم بالنسبة لله عز وجل، لأنّك تحققت بالرضا الكامل المرادف لحديث الرسول ﷺ (أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ).
فتخيّل كيف سيغدو رضاك حين تقول الحمد لله بعد مصابٍ عظيم جلل، نعم إنّه حمد عظيم جدا في ميزان الله، ولذلك أنزل الله في هذا تحديداً قرآناً يتلَى في الأرض والسماء “وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ”.
والحقيقة أنّ كل موازين المؤمن في الحياة أساسها حديث النبي ﷺ السابق، فعلى قدر تصالحك مع حتمية أن الذي أصابك كان هو اختبارك الفردي وما أخطأك كان أيضاً اختبارك الفردي الخاص ، فأنت تعيش مرحلة الوعي الإيماني.
إنّ مدى تصالحك مع اختبارك الخاص، هو انعكاس لمدى وعيك الإيماني أيضا، فكلما زاد هذا الوعي، كنت ممتحَنَاً ناضجاً وأكثرَ هدوءاً وحكمة، وكلّما نقص هذا الوعي، كنتَ مُمْتَحَناً ساخطاً غوغائياً مزعجاً ( لنفسك ولمن حولك أيضاً) حتى أن النور لا يجد مكاناً في قلبك ليستقر به، لأنّ النور مرادف الحكمة، والحكمة هي مرادفة التأمل، والتأمل هو مرادف أُنس العارف بربه، وهكذا أنت في كل تجربة تخوضها في حياتك، أمام اختبارك الفرديّ إمّا أن تفتح باب قلبك للنور أو للظلمة، وثق دائماً أنّ اختبارك خاص بك وحدك، لن يحله سواك، ولن يكون لأحدٍ غيرك، وعلى قدر وعيك الإيماني يكون نجاحك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.