سياسة
في المقال الماضي تحدثت عن عام حكم المجلس العسكري (الخونتا) شديد الشراسة. اليوم أكتب عن تماسيح السلطة بين المؤسسة العسكرية والمخابرات، وكيف وظفوا الدولة البوليسية الراسخة لحماية السلطوية التي فَرَتْ أكباد الشعب المصري وغيّبت المعارضة في غياهب السجون وفي جب اليأس لعقد ونيّف من الزمن.
هل ”لمصر ثلاثُ أجهزةِ مخابرات“ ؟
”جهاز المخابرات العامة: يُختص بجمع المعلومات ومكافحة التجسس. جهاز الأمن الوطني: يُختص بجمع المعلومات في داخل مصر ومكافحة الإرهاب واسمه كان سابقا مباحث أمن الدولة. إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع: تُختص بجمع المعلومات العسكرية وتأمين القواعد العسكرية والعسكريين.“
هذا الكلام المنسوخ على محركات بحث كثيرة غيرُ دقيق وإطلاقُه على عواهنه مُخلٌّ بالضرورة. وإلى حضراتكم السبب:
القلم السياسي ١٩١٣
هو الجيل الأول من الأمن الوطني الحالي والاسم الأول له أثناء الاحتلال البريطاني، وقد كان دوره أنذاك بالضبط دورَه سيءَ السمعة الآن؛ التجسس على المواطنين، دس المخبرين بين الخلايا السياسية والإصلاحية والتجمعات العمالية والطلابية والصحفية، وتعيين مرشدين ودسهم بين المواطنين ،وممارسة التعذيب في السجون لصالح السرايا (القصر الملكي)، لم يتغير عليه سوى الاسم من جيل لجيل. هو أقدم جهاز وأكثرهم خبرة في الشرق الأوسط. رائد في المجال ماشاء الله.
استعان الاحتلال في إنشائه بضباط البوليس المصري لتبقى هذه الفجوة الأبدية بين الأمن العام والبوليس السياسي، وكان أول مدير قلم للبوليس السياسي اللواء سليم زكي حكمدار القاهرة – المقرب من السرايا والانجليز طبعا. عدا ذلك نسخة طبق الأصل من الأمن الوطني الحالي. قبل دولة يوليو كان اسم ”القلم السياسي“ أو ”القلم المخصوص“ قد أُسْبِغ عليه منذ توقيع معاهدة ١٩٣٦، وبعد دولة يوليو تغير اسم الجهاز في أغسطس ١٩٥٢ وبدأت الصلة بالمخابرات العامة ( انتبهوا للمرة الأولى يتحول من جهاز شرطي إلى شرطي مخابراتي ) تحت اسم ”المباحث العامة“ ثم غيره السادات إلى ”مباحث أمن الدولة“ ثم في عهد مبارك إلى ”جهاز أمن الدولة“.
عند هذه النقطة التحمت مباحث أمن الدولة مع المخابرات المصرية في العلن، فسميت ”نيابة أمن الدولة العليا“ وهي جهة مُستشكلٌ في دستورية وجودها أساسا؛ كونها غير دستورية؛ إذ إن تشكيلها جاء بتأشيرة من وزير وهو غير جائز دستوريا، لأن ذلك يمنعها قانونا من أن تكون جهة إحالة كالنيابة العامة مثلا. فتحولت دولة ”الخونتا“ سواء في حكم المجلس العسكري ١٩٥٢ أو المجلس العسكري ٢٠١١ إلى دولة عسكرية مخابراتية بيد أمن الدولة أو الأمن السياسي الثقيلة.
أمن الدولة والقضية ٣٦٥٨ جنايات
من أخطر المهام التي نفذها جهاز أمن الدولة قبل أن يغير اسمه للتنكر لجرائم ذات الجهاز إضافة للتجسس على المثقفين والثوار والعمال والمواطنين وتلفيق التهم والابتزاز والتحريض وترهيب الصحفيين والطلاب والمعارضين وتكبيل العمل العام، كانت جريمة حرق وثائق ومستندات وملفات مباحث أمن الدولة في مارس من عام ٢٠١١ إبان رئاسة حسن عبد الرحمن للجهاز. اختلف حتى بعض رؤساء الجهاز السابقين عما إذا كان ما احترق هو مستنداتٌ وخططٌ ووثائقُ تضم مؤامرات مهمة وملفات تلفق للصف الأول من الشخصيات البارزة في قيادات الحياة السياسية العامة آنذاك، أم طُعمٌ تُرك لملفات مزورة بين مستندات مهمة حرقت بالفعل بعد التأكد من حرقها لتشويه رموز الثورة بادعاءات وأدلة زائفة لأمور شخصية أو سياسية تشين الأسماء البارزة في تلك المرحلة المبكرة من ثورة يناير.
في الظاهر تم التحفظ على اللواء حسن عبد الرحمن المدير السابق لجهاز أمن الدولة وسُجل في المحاضر وجلسات الاستماع للشهود – بالمناسبة اختفوا جميعا وقد حاولتُ شخصيا العثور على أي منهم وفقا لمحاضر التحريات آأنذاك بغرض البدء في تحقيق صحفي ولم يبق لأي منهم أثر – على كل – القضية رقم ٣٦٥٨ لسنة ٢٠١١ جنايات أول أكتوبر، المقيدة برقم ٢١٩٨ لسنة ٢٠١٢ كلي جنوب الجيزة. انتهت برفض تظلم حسن عبد الرحمن وعاد كل مساعدي وزير الداخلية آنذاك حبيب العادلي لمنازلهم بلا شائبة والحكم: طبعا براءة.
وضع المجلس العسكري اللواء حسن عبد الرحمن تحت الإقامة الجبرية. تنصل جهاز الأمن الوطني كما تنصل جهاز أمن الدولة من سابقه والمباحث العامة من القلم السياسي كما فعل هو من المخصوص – كذلك فعل الأمن الوطني من أفعال جهاز أمن الدولة – هكذا دون حساب أو رقيب أو أثمان. فبقي جهاز الأمن الوطني ذراع المخابرات العامة والمؤسسة العسكرية في الداخلية. ولن أواربها، أمين الشرطة في الأمن الوطني اليوم كفيل بأن يحيل حياتك إلى جحيم مقيم، فمابالك بالرتب الأرقى.
المخابرات الحربية
على الرغم من قيادة إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع للقضايا المتصلة بالأمن القومي من الناحية العسكرية واستطلاع تحركات ”العدو“ – سنقف عند هذه الكلمة كثيرا في تحقيقات لاحقة- ومتابعتها وقراءتها وجمع المعلومات التي تخص تشكيلاته القتالية واستعداداته في حالة السلم والحرب، ومسح القوات الميدانية للعمليات العسكرية، والمسح الجغرافي ومطابقتها مع الخرائط العسكرية التفصيلية وتقديم المعلومات إلي القيادة العسكرية والسياسية لتقدير الموقف على الأرض. فالمخابرات الحربية التابعة للقوات المسلحة المصرية وعملها يعد حاسما في تقدير الموقف الاستراتيجي.
المخابرات الحربية أيضا تعمل بالتنسيق مع الشرطة العسكرية لضمان أمن المنشآت العسكرية لتأمين الوثائق والأفراد والأسلحة. من حيث تاريخ المخابرات الحربية فهي الهيئة الاستخباراتية الثانية في نشأتها بعد”القلم السياسي“، يليهما في النشأة جهاز المخابرات العامة وأنشئ في ١٩٥٤. هذه الرواية الرسمية للدولة.
وأنا لا أشكك في أن كل هذا العمل يتم. سؤالي الأساسي هنا: في أبريل ٢٠٢٥ – من هو العدو؟
وأين كانت الشرطة العسكرية من حرق وإتلاف وثائق أمن الدولة؟ الحجة جاهزة طبعا – أمن الدولة جهاز شُرّطيٌ مدني – أو هكذا يبدو.
المجلس العسكري ٢٠١١ – التمهيد للعشرية
أدى الضغط الشعبي الجامح في الثمانية عشر يوما يناير ٢٠١١ إلى رضوخ القوى الغربية، التي أفهمَها الميدان أن مصالحها مهددة، وأن مبارك فقد سيطرته الأمنية الرهيبة وأن جبابرة أمن الدولة يتهاوون أمام الغضب الشعبي غير المسبوق. بدى أوباما مترددا ومتخبط القرارات. كانت هيلاري كلينتون وزيرة خارجيته أكثر ثباتا وما يعنيها فعلا هو تثبيت مبارك على كرسيه لضمان المصالح الأمريكية، ولأنه ليس من بديل أعدته الولايات المتحدة أو مهدت له إسرائيل.
خرجت خطابات مبارك لزجة وباردة الصلف، إصلاحات مهترئة ووعود معلبة. زاد الغضب واهتزت قرارات أوباما، حتى جاءت لحظة حاسمة. قال أوباما بإشارة خضراء للانتفاضة الشعبية Now means now! الآن يعني الأن. سحبت المؤسسة العسكرية بساطها من تحت قدمي مبارك واشترت نفسها.
عمر سليمان – القتيل الحيّ
في التاسع عشر من يوليو ٢٠١٢ في الساعة الثالثة وتسعٍ وخمسين دقيقة من بعد الظهر – يعلن على (موقع تويتر سابقا) الزميل فيصل القاسم مذيع الجزيرة نبأ ”اغتيال“ اللواء عمر سليمان في سورية بعد أن تمكن الجيش السوري الحر من اختراق مبنى الأمن القومي السوري ويفجره. عمر سليمان حسب ما عرفنا في الدائرة الاستقصائية كان له خط سير محدد في سورية وهذا مفهوم. القاسم على روايته قال إن لقاءات سليمان برتب المخابرات الرفيعة في دول عدة بما فيها إسرائيل اعتادت اللقاء للتباحث في إنقاذ النظام السوري وبشار الأسد من ”الربيع العربي“.
لكن المحاولة الأولى لاغتيال عمر سليمان لم تكن في سورية؛ كانت في القاهرة. لم يَدْرِ بها أحد إلى أن أعلن هو بنفسه، ولم تكن ساعتها أولوية. مبارك اعتقد أن تسمية نائب سيخفف الضغط الشعبي في الميدان؛ عسى أن يحل ذلك أزمة التوريث مع المؤسسة العسكرية. فقرر مبارك اللجوء إلى المخابرات العامة. وعلى ما يبدو لم تفلح المناورة.
المؤسسة العسكرية – القصر – المخابرات العامة
محاولة مرتبكة لاغتيال عمر سليمان
تفادى عمر سليمان حسب روايته لليوم السابع في ١٥ أبريل ٢٠١٢ محاولة اغتياله في يوم ٢٩ يناير ٢٠١١. انتقل من سيارته لسيارة تأمين مصفحة تصاحبه أينما ارتحل. تحرك سليمان من مبنى المخابرات باتجاه رئاسة الجمهورية ففوجيء بإطلاق النار من عناصر مسلحة وقتل سائقه. وقع اشتباك فعلي في الطريق بين الحرس المسلح لعمر سليمان والعناصر المسلحة. استُبدل سائق السيارة وفر سائق المصفحة باللواء عمر سليمان نحو قصر الرئاسة.
لست أكيدة من دقة هذه الرواية لأكثر من سبب. أولا وجه الاستعجال في طلب مبارك لرئيس مخابراته العامة وطلبه للرجل فورا؛ هذه اللقاءات وخطورة المجازفة بها خلال ال ١٨ يوما كان مقامرة برئيس المخابرات و بلا ترتيب عادة ما يكون بسبب أمرين: إما طارئ خطير، أو مؤامرة.
ثانيا، كيف لمحاولة اغتيال مركبة، إحداها قبل استبدال السيارة بالمُصفّحة ثم بأخرى بعد قتل السائق ولم تدْرِ عنها المخابراتُ شيئا خاصة وأنها – حسب الرواية – جرت بالقرب من قصر القبة، يعني في الشارع وعلى كوبري قصر القبة! كيف بعناصر مسلحة بسلاح دقيق الاستهداف (أسلحة آلية أوتوماتيكية) أن يسيروا في الشوارع حاملين هذه الأسلحة! الأمر حتى لم يتوقف عند محاولةٍ مُركّبة.
محاولة ثالثة بمسلحين أيضا على بعد أمتار كانت تنتظر عمر سليمان في الطريق للرئاسة! عمر سليمان ذاته قال إن الجهة الوحيدة التي كانت تعلم بنوع وأرقام السيارة التي كان يستقلها بحراستها كانت رئاسة الجمهورية!
فيلم لقناة العربي نُقل فيه عن عبد اللطيف المناوي الإعلامي والمسؤول الأسبق بقنوات الأخبار باتحاد الإذاعة والتلفزيون والمسؤول البارز في مناصب حساسة في سفارة مصرية واحدة على الأقل إبان حكم المجلس العسكري أن ”شاهدة عيان“ من شرفتها في مصر شاهدت إطلاق نار كثيف من ثلاث جهات على سيارة عمر سليمان. العجيب هو أن سيدة واحدة فقط في هذه المنطقة شديدة الكثافة السكانية هي الشاهدة، بل وأنها يفترض أن تكون مذعورة من المشهد ومن مسافة شرفتها بافتراض أنها تؤمنها من إطلاق نيران مكثف من أسلحة أوتوماتيكيا ”ميّزت“ السيد عمر سليمان الذي يشبه في ملامحه ملايين المواطنين المصريين لا شيء فريد أو مميز في ملامحه على الإطلاق! زرقاء اليمامة ماشاء الله. اللافت أكثر أن السيد عبد اللطيف المناوي بأدواره خلف الكواليس وعلاقاته الوطيدة بالجهاز هو من تشير إليه قناة العربي وتنقل عن كتابه.
المؤسسة العسكرية لم تكن راضية عن تعيين عمر سليمان نائبا لمبارك في أيام حكمه الأخيرة. الغريب أن المحاولة الناجحة ل ”تغييب” عمر سليمان؛ حقيقة لأن هذا فقط ما نحن أكيدون منه ”التغييب“، نُشرت بصيغة تسترعي النظر في جريدة تايمز أوف إسرائيل Times Of Israel وقد أشاد الموساد بالرجل أكثر من مرة، بل خرجت قيادات في جهاز الاستخبارات الإسرائيلي مرارا مؤكدين أنهم اقترحوا على سليمان المساعدة في أسبوع الضغط الأخير قبل سقوط النظام ورَفَض قائلا إن الأمور تحت السيطرة (في فيلم قناة العربي ذاته في الدقيقة ٤٩ : ٤ تصريحات لأحد ضباط الموساد ).
استخدمت الجريدة ذاتها Times of Israel لفظا محايدا جدا؛ فقالت إنه في التاسع عشر من يوليو ٢٠١٢ في الثانية عشرة والربع ظهرا نُشر أن عمر سليمان نائب الرئيس السابق ورئيس جهاز المخابرات العامة (مات). هكذا بلا أمجاد ولا أشهاد. كل ما قيل أن الرجل قضى أثناء إجراء اختبار طبي في الولايات المتحدة. لكن الجريدة الإسرائيلية المشهورة بالمكايدة والسبق في أمور عربية كثيرة، ويُعهد إليها هي وهاأرترز بفضح وإحراج ”القادة“ العرب بإعلان خطوات يفضلونها سرية لابتزازهم أمام شعوبهم قالت لفظا في الفقرة الثالثة من خبر ”موت“ عمر سليمان إن الرجل لم ترد عنه تقارير تقول إن صحته كانت معتلة كما روت عن مساعِدِهِ حسين كمال ”لقد كان بخير. جاء موته فجأة حينما كان يجري بعض الفحوصات في كليفلاند“. للعاقل أن يطرح السؤال: ماذا وُضع لعمر سليمان في إبر التحاليل والفحوص؟ ومن يستفيد من إخفائه؟
حسين طنطاوي – قائد الخونتا
الإعداد للفقد النهائي
كان المجلس العسكري يعلم أن الميدان هو العقبة الكؤود أمام الانفراد الأوتوقراطي بالسلطة، فسحب وجوهه المحروقة، ترك الساحة للمدنيين، وعلم أنها ستُحسم للإخوان. هم أنفسُهم صدّقوا أن الحكم سيستقيم لهم. فبدأت التنازلات. الكعكة كبيرة والكل لم يكونوا أبدا كلا متسقا. نجح المجلس بمعاونة المخابرات وكَنِّ اليد الاصطناعية ( أمن الدولة ) داخل معطف القرصان. تُركت العصافير المدنية والليبرالية واليسارية ترسم أحلام الثورة كلٌّ على هواه. تشكلت الوحدات والخلايا والأحزاب والحوارات. وبدلا من أن يَهُشَّها المجلسُ هَشَّ لها، وابتسم. وتَرك الارتياب يَرعى في الجسد الطفل وزَرَع الفتنة في كل خلية وكل عُش. ولم يكن يريد أكثر من ذلك. تشعبت يد المخابرات المعروقة في قلب تجمعات الثوريين. أغرقتها بعفن الفتن. انفصمت العُرَى وانشق الصف. تفصدت العهود. فحل على الجميع شبح الثيوقراطيين.
”الشعب والجيش إيد واحدة!“
كان المجلس العسكري بقيادة المشير حسين طنطاوي- يد مبارك الرخوة؛ التي اكتفى بها المجلس العسكري واجهة مؤقتة بينما دفع بوجه محايد تماما يؤدي في البيان رقم ٣ في نفس اليوم الذي سماه المجلس يوم ”التنحي“ ١١ فبراير ٢٠١١- الوجه المحايد لضبط إيقاع الشعب والجيش ”إيد واحدة“ كان اللواء محسن الفنجري يؤدي تحية عسكرية ”لشهداء ثورة التغيير المصرية“. كان المجلس والمخابرات شديدَيّ الذكاء بديعَيّ التوقيت، يحسبان ألف حساب لما هو آت، فقد تخلص المجلس العسكري للتو من ”نُقرة“ التوريث، وبالعامية المصرية لا تنقصه ”دُحديرة“ الثوريين.
بدت العثرةُ حقيقيةً وكبيرةً جدا حين تصدّر المشهدَ مئات الشباب والشابات الواعدون، سجنوا جميعُهم فيما بعد، وقادة طلابيون قُدامى وليبراليون ويساريون وقوميون حمدين صباحي وأبو العز الحريري وبهاء الدين شعبان وكمال خليل و وعايدة سيف الدولة وأيمن نور وجورج إسحاق ومئاتٌ آخرون والكادر المصري الدولي النخبوي الضخم الدكتور محمد البرادعي وغيرهم عشرات، فضلا عن رافعة شعبية مليونية وقاعدة عمالية متجذرة كانت صاحبة الفضل في الحراك حتى قبل أن تؤسس حركتا ”٦ أبريل“ و ”كفاية“ وفي انتفاضات العمال من ٢٠٠٤ – ٢٠٠٨ حتى ثورة الخامس والعشرين من يناير. وهذا غيض من فيض كتبت عنه آنفا وباستفاضة.
اختيارات القصر الأخيرة
لم يكن عمر سليمان ليرشّحّ خلفا له، كما لم يكن مبارك ليسمِّيَ نائبا. الاثنان يخشيان النائب كإعطاء ساحر جديد سر الصنعة. لكن اللحظةَ ثقيلةٌ والشعبَ على باب القصر والأصدقاءَ خفت صوتُهم ولربما يدفعون الباب مع الدافعين..والقصر مهْما اتسع ضاق بمن فيه، والكل فيه خائنٌ لا يؤمن جانبه. لكنْ أن يكونَ مراد موافي الاختيار في تلك اللحظة، لحظة إعداد الانقلاب داخل القصر، من أقرب رجاله عليه، هذا أمر كان لا بد لي من دراسته جيدا، فعمر سليمان ليس رجل الحلول السريعة، وفي قراراته الكبرى لا يعمل تحت الضغط.. أبدا.
مراد موافي – طلسم سيناء
هناك نوعان من البشر يعملون في مناصب حساسة ودقيقة في أي نظام هيكلي كبير؛ نوع يمثله في نظري السيد عمرو موسى (النجم) الذي يبرز منفردا، يستثمر في نفسه، متى برز غابت الأضواء عمن حوله، هذه شخصية النجم، في هيكلية أي دولة مكانه الخارجية ومناصب تحت الضوء وحضوره في تمثيل الدولة في محافل دولية غالبا. نهايته في أفوله.
أما النوع الثاني فهو العامل في صمت، خلف الكواليس، وفي الظل وبثقل كبير. ليس أقل أهمية من ”النجم“ و يمثله شخصيات ك ”أسامة الباز ” أو ”زكريا عزمي“ ”الطلسم“ وهو شخص يحمل كل الأسرار وحضوره يثير الرهبة، استثماره في المعلومات والعلاقات يعرف الكثير عن كل الشخوص ويعلم كيف تدور هذه الماكينة العملاقة. نهايته قتلُه.
العجيب حقا والمميز جدا في اللواء مراد موافي أنه أدى بنفس الكفاءة في لعب الشخصيتين. تابعت أداءه لسنوات وفهمت دوره في مراحل التأسيس للعشرية الأخيرة في دماغ عمر سليمان الرهيبة.
أراد عمر سليمان أن يجذب رجلا من الخفاء للنور، أن يُوقِعَ رَجُلَ مخابرات يعمل في بقعة حساسة جدا في مصر (سيناء) إلى واسطة عقدها مركز الضوء في القاهرة – في دوائر الحكم البعيدة عن الحدود. رَسَم له البداية والنهاية، استخدمه قدر ما احتاج وأنهى دوره وقتما خطط. وقد كان. مراد موافي الطلسم إذا أشعلته أصبح كالألعاب النارية، أو خَلْهُ كالشهاب المار، إذا أنار انطفأ بعد حين.
مراد موافي تسلم رئاسة المخابرات العامة في الحادي والثلاثين من يناير ٢٠١١ وعزل عن المنصب في الثامن من أغسطس ٢٠١٢. وسأروي لكم قصة الإقصاء بعد دقائق. لكن من فضلكم انظروا معي كيف كان هذا الرجل ”طلسما“ في سيناء. كان محافظا لشمال سيناء منذ ٣ يناير ٢٠١٠ – ٢١ يناير ٢٠١١ – قبلها كان مدير إدراة المخابرات الحربية والاستطلاع ٢١ مارس ٢٠٠٤ – ٣ يناير ٢٠١٠ (انتبهوا) كان رئيس المخابرات الحربية وقتها عبد الفتاح السيسي.
وهنا كانت نهاية مراد موافي الذي روج لنفسه تليفزيونيا بأنه ١) عمل على إيصال المساعدات لغزة بالتنسيق بين فلسطين ومصر. ٢) أدار الحوار بين ائتلاف شباب الثورة إبان المجلس العسكري والدولة. ٣) على يديه اعتذرت إسرائيل للمرة الأولى عن قتل ٦ جنود مصريين بعدما قالت إنها كانت تطارد ”إرهابيين تقصد حماس على الحدود“. ٤) كان طرفا في فريق المخابرات المصري الذي توسط بين فتح وحماس لإنهاء الخلاف. ٥)لعب دورا كبيرا في صفقة تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل التي تضمنت الإفراج عن جلعاد شاليط وخرج فيها للنور الفقيد يحيى السنوار.
في أغسطس ٢٠١٢ اغتيل ١٦ مجندا مصريا في هجوم على نقطة تفتيش بمركز حكومي حدودي في رفح المصرية في رمضان واتُهمت المخابرات العامة (وليست الحربية للعجب) بالتقصير وعدم تحرك الأجهزة المعنية لمنع الواقعة. لكن شيئا ما في القصر كان يحاك لمراد موافي ، وأظن أنه علم عن ذلك قبل فترة، فصرح في العلن «كنا نملك معلومات عن حادث رفح.. وأبلغنا السلطة المسئولة لأننا جهة معلومات فقط»، فأقالته رئاسة الجمهورية، بلا تحقيق ولا شوشرة حتى منه نفسه. دفعت المخابرات برأفت شحاتة لإيهام محمد مرسي ومن خلفه خيرت الشاطر أنه اختيارهم. بالفعل أصدر مرسي القرار بتعيين شحاتة.
اللافت جدا أن جريدة الوطن لسان حال المخابرات والتي لم يكن للإخوان عليها من سلطان أعلنت عن عدد مهول من الإقالات آنذاك أقرها الرئيس الراحل محمد مرسي والتي شملت تقريبا كل الجهاز الأمني والمحافظ والشرطة العسكرية و كما سمتها الرئاسة ”القيادات العليا“ بينما لم يكن فيها من الإقالات العليا غير مراد موافي؛ بدليل أن مدير المخابرات الحربية عبد الفتاح السيسي لم يمسه أحد، بل على العكس اختاره دونا عن غيره وزيرا للدفاع. القرار لم يكن للإخوان، القرار كان للمخابرات.
اللواء محمد العصار – يد الفتنة
الفريق محمد سعيد العصار – الذي شيعه السيسي في جنازة عسكرية. وزير الإنتاج الحربي. لا أظن رجلا خاض في سيرته القادم والذاهب في مصر في سنة المجلس العسكري أكثر من هذا الرجل. العصار كان المسمار الذي دُقّ في قارب مصر المرفوع على أكتاف الثائرين. الوجه الناعم للمجلس، ومن ورائه مراد موافي.. على الرغم من مسافة موافي عن القاهرة في معظم سنوات خدمته، إلا أن الاحتياج إليه في الأمور الخلافية في الحوار مع ائتلاف شباب الثورة كان أحيانا ما يدفع الأمور للأمام. الفريق محمد العصار عدو كبير للإخوان المسلمين. يرون فيه عفريتا تآمر عليهم، بل يرونه السكين الذي أخفاه السيسي خلف ظهره وهو يؤدي القسم وزير دفاع لهم. اللافت في سيرة محمد العصار أنه لا يأت أبدا في المناطق الرمادية؛ إما إصلاحيا حاول التوفيق، وإما أفسد كل شيء وشارك في خديعة، هكذا بلا مواربة.
صفقات العصار
ضمن مناصب الفريق محمد العصار منصبٌ لا يلتفت إليه كثيرون وهو منصب مساعد وزير الدفاع لشؤون التسليح. المنصب خطير لأنه ضالع في تنفيذ كل عمليات شراء السلاح من الخارج، والمنحة العسكرية الأمريكية كذلك إلى جانب مرؤوسه. ويُختار لهذه الرتبة في المؤسسة العسكرية المصرية بمنتهى العناية لأسباب مفهومة. محمد العصار عمل خلال حرب أكتوبر في سلاح المهندسين العسكريين، وفي حقبة ما كان رئيسا لهيئة التسليح المسؤولة عن التعاقد على صفقات الأسلحة ودخولها وخروجها من الخدمة. وسأكتفي بهذه المعلومات.
الثيوقراطيةُ هي الحل!
بعد التنحي، تكونت كتل شعبية ونخبوية متداخلة مخيفة للمجلس. فكان لابد من الاختيار – بين هذا الجمع المتعطش للحرية قليل الخبرة في الحكم فوق وتحت الأرض، أو الجمع الآخر صاحب الخبرة في عقد الصفقات الخبير في العمل تحت الأرض ”الشاطر“ في العمل العام الخيري ولربما التجاري، لكنه صفر اليدين في الحكم. والحقيقة التي لا تجميل فيها، أن الإخوان المسلمين كانوا تنظيميا أكثر جدارة. ففازوا بها في جولة الإعادة بجمع أصوات الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وأصوات محمد مرسي بهامش غير حاسم. حينها، وحينها فقط، أعادت المخابرات يد الأمن وأمن الدولة ظاهريا إلى”دولة الإخوان“. بينما استَبْقَت يدها محركا للدُمية من الخلف.
هنا بالضبط كانت الخديعة. اختفى أمن الدولة الكريه المؤذي. وظهرت القوات المسلحة التي يعتز بها المصريون. وهذه حقيقة لا نتبرأ منها. من ورائها كانت يدا المجلس العسكري وخُطَّافُها المسنون تحتفظ بجذورها في الدولة العميقة (المخابرات) بالكثير من الخدع. كان ينقصها كأي ساحر أصيل، عنصر الإلهاء. فكانت كل يوم تخرج بحيلة يغلّفها كثيرٌ من الضوضاء.
بدأت حرب ميليشات الإخوان والسلفيين وأمن الدولة إما بالتغاضي أو الاختفاء تماما أو بالدفع بالبلطجيه على التيارات الثورية والمواطنين العزل على الأرض.. اختلط الحابل بالنابل، كل يوم اشتباكات، حتى إن أعنفها كان أمام القصر الجمهوري (الاتحادية) حيث يقبع محمد مرسي. بينما كانت المخابرات والمجلس العسكري من فوق هذا العبث والإلهاء يؤسسون لما بعد الإخوان بالفعل، لدولة مستتبة ونهائية للعسكر، يخدمها عبد المأمور الأمن الوطني. دولة لا ينازعهم فيها أحد. كل إصلاحييها إما في السجون أو في حلقته اللعينة المفرغة، وكل سياسييها على المقاس، وكل معارضيها ”على قد إيدينا“.
كانت الدولة العميقة تُعِدُّ تحت الأرض قنبلةً موقوتةً للإخوان، ولم ينقذهم حسنُ التنظيم. أكلوها ساخنة بلهيبها، اختاروا هم بأيديهم وزيرَ دفاعهم. أدى أمامَ محمد مرسي القَسَمَ (قسما قال فيه أقسم بالله العظيم) ووراء ظهره سكينٌ يُضمرها لطعنه. أجل – وزير دفاع الإخوان – عبد الفتاح سعيد حسين خليل السيسي.
الثيوقراطيون – ثمن الحكم بالصفقات المشبوهة
قبل أن ينتفض ثائرا بعض قرائي المحترمين أود انتقاء المدخل لهذا العنوان. أنا لا أتحدث عن عام حكم الإخوان بالستارة والصندوق، وقد أشرت إليه آنفا. أتحدث هنا عن سنة المجلس العسكري، حين أدارت المخابرات اللعبة وضبت يدي أمن الدولة في جيبها. في التاسع عشر من نوفمبر في محمد محمود ١٩-٢٥ نوفمبر ٢٠١١ تخلى الإخوان المسلمون عن الثوار. الثوابت شاهدة في سنة المجلس العسكري على إلقاء الجثث في القمامة واصطياد العيون بينما كان الإخوان يعقدون صفقة البرلمان بالفعل وتركوا شباب الثورة فريسة للمجلس العسكري. ثم خرجت الأجهزة الأمنية من معطف المخابرات والمجلس العسكري، عاد أمن الدولة والأمن العام إلى الشارع، فكانت جريمة مكتملة الأركان. تلاها سلاح برعت فيه المخابرات، أقول ذلك لأنني كنت إحدى من تجرأ على اسمها آلات البروباجندا والسب والقذف الجبارة بعرائس تتغير ولا تصيب؛ ظواهر صوتية تلهي عن النظر عن الجريمة الحقيقية في الميادين. بدأ التحريض على الشباب في الميدان. عملت آلة التحريض الدينامو تغير الهويات وتؤكد وصمات مازال الشباب- حتى من حبس لأكثر من ١٠ سنوات – يوصمون بها رغم بطلانها. أصبح الثوار ”بلطجية“ ويعطلون ”عجلة الإنتاج“ ومنفذي ”أجندات خارجية“. كانت فجيعة الثوار في المجلس العسكري والإخوان في آن معا كافية جدا لاصتيادهم فرادى وجماعات. وبدأ السجن المتسلسل لوجوه الثورة وعقولها الأهم. هذه الدولة التي أتمم الكتابة عنها اليوم. دولة المجلس العسكري (الخونتا) التي سلمت دولة سلطوية هانئة للأوتوقراط ”الديكتاتور“، تحت الأرض ”المخابرات“ وفوق الأرض ”الأمن الوطني“.
مراد موافي: ”الإخوان فشلوا في اختراق المخابرات“
كان عنوانا عريضا ومهما نشرته العربية. كانت تلك عين الحقيقة ما أدلى به اللواء مراد موافي في ٢٦ أبريل ٢٠١٤ وحُدّث في ٢٠ مايو ٢٠٢٠. موافي كان يمنح السيسي صوته في انتخابات الرئاسة الأولى للسيسي بعد التفويض. لكن لفتتني فقرات أهم بكثير. كشف مراد موافي عن عمد في ٢٠١٤ من الذي يحكم مصر بالفعل. قال مراد موافي:
”وأكد أن المخابرات شاركت جميع أجهزة الدولة بعد الثورة في تأمين مصر، مشيرا إلى أن سقوط جهاز أمن الدولة أضاف عبئا آخر على المخابرات العامة، حيث تمددت أنشطة الجهاز لتعويض الفراغ الذي حدث مشددا على أن الإخوان لم ينجحوا في اختراق جهاز المخابرات بسبب مناعته الشديدة.“ولفت موافي إلى أن جهاز الأمن الوطني استعاد عافيته ودوره أفضل مما كان، وأصبح يؤدي عمله بإتقان شديد“.
سينا رجعت كاملة لينا (للمخابرات العامة)
”أعلن محمد حسين طنطاوي فرض السيطرة الكاملة على سيناء، وأن تبدأ حملة من الخابرات العسكرية عملية كبرى لتحييد الإخوان المسلمين في عام حكمهم عن سيناء وتطويق المنطقة تمهيدا لتفريغها لاحقا في إطار ”خطة كبرى“.
انتبهْتُ لها على القنوات الرسمية وصفحات وزارة الدفاع- إقرؤا معي- “قتلوا ١٦ من الجنود المصريين وأصابوا سبعة بعد تبادل لإطلاق النار، ثم استولوا على مدرعتين واتجهوا بهما إلى الأراضي الإسرائيلية عبر معبر كرم أبو سالم“.
نقلت وسائل الاعلام التي لم يكن لمحمد مرسي سيطرة عليها بأي حال نقلا عن وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية عن “مسؤول أمني رفيع“ أن الهجوم نفذه متشددون تسللوا من غزة عبر الأنفاق، لكن الحكومة الفلسطينية في القطاع (حماس) نفت ذلك قطعيا. وبالمنطق (لماذا تهاجم حماس نقطة تفتيش مصرية؟) من له مصلحة؟ حتى إن حماس كانت قد أعلنت أن مصر ستمد قطاع غزة بالوقود لتشغيل الكهرباء ونشر ذلك في صحيفة الأهرام أونلاين لأهل القطاع.
هكذا اتحدت المخابرات العامة (الدولة العميقة) ومؤسسة القوات المسلحة ضد القصر (الإخوان المسلمين) ولم تمكنها من اتخاذ القرارات، بل لم تمكنها حتى من أدواتها الإعلامية. قس ذلك على كل مفاصل الدولة وأدوات الإعلان. كان الطريق ممهدا ل ٣٠ يونيو.
كانت دولة ٣٠ يونيو هي المنتج المرسوم من ١١ فبراير ٢٠١١. دولة بطلها العسكر! ورأسها المخابرات (الدولة العميقة) وحامي حماها الأمن الوطني! خطة إقصاء وحرق مراد موافي وعشرات آخرين تُركوا لمحمد مرسي ليحرقهم في العلن، حتى إذا ”شبطت“ في عباءته النار لا يجد له من نصير سوى ”أهله وعشيرته“. رسمت لكل الأدوار الثانوية النهايةُ حتى قبل اختيارهم. نفذ الإخوان الحلقة الأخيرة صحيح، لكن المخابرات العامة والحربية كانت تسير وفق خطة المعلم الأكبر عمر سليمان بحرفية وبدقة وبصمت شديد، تُحرك الدمى بعظيم المهارة، وبلا أمجاد. والمحروقون طلاسم ونجوم، والصخب ثوار محبوسون وإخوان محروقون، ومحمد مرسي الذي أقال الجميع ونكل بالجميع هو ذاته باقي له يومان ثلاثة، وسيُغَيَّب هو الآخر وتستقيم الدولة لل“حريفة“ – فلا بأس.
مصر في هذه العشرية الأخيرة مشروع كبير لوضع المخابرات والمؤسسة العسكرية المصرية يديهما على مصر بكل هذا الحجم والإمكانات الاقتصادية والاستراتيجية. بدأ الإعداد لها منذ قرر المجلس العسكري التخلي عن حسني مبارك، اكتملت الخطة بوصول السيسي للحكم. بعد البحث والتدقيق في كل تفصيل، مصر الآن دولة أوتوقراطية مخابراتية بوليسية، ولكن ليس طويلا.
تفضلوا بقراءة تحقيقاتي القادمة – كالعادة إن عشنا.