أدب
قرأتُ خبرًا عن إجراء وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، والمبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف مباحثات غير مباشرة يوم السبت الماضي في العاصمة العمانية مسقط، وتذكّرتُ ما تتميز به الإدارة في إيران مِن توفُّر عديد من الشهادات والمذكّرات الشخصية عن رؤيتها السياسية وكواليس المفاوضات، فقادة إيران معروفون بكثرة التفاوض. وقد كتب وزير خارجيتها عباس عراقجي كتابًا عن “مبادئ وقواعد المفاوضات الدولية”، نُشِر بالعربية مؤخرًا عن “دار هاشم” في بيروت.
يذكر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي قصة على غلاف الكتاب، فيقول: “في أثناء التفاوض قدمَتِ السيدة شيرمان إيضاحات كثيرة حول أحد المواضيع الصغيرة التي كانت متبقية، وقالت لي: ’أتوافق؟‘ قلت: ’نعم، ولكن هناك نقطة صغيرة‘. هذه العبارة ’نعم، ولكن…‘ التي كثيرًا ما كانت تُقال من جانبنا، كانت تُربِك الطرف الآخر وتُتعِبه، إذ كنا أحيانًا نتفاوض أيامًا وساعاتٍ حول جزء ’ولكن، هذا…‘، الذي كان جزءًا فرعيًّا للموضوع. لكن هذه المرة لم تَعُد السيدة شيرمان تتحمَّل، وغضبت وانهارت دموعها بشكل لا إرادي. وكانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها مفاوضًا يبكي في أثناء المفاوضات”.
انتهى المقتطف الذي يزهو بقدرات المفاوض الإيراني، والسيدة المقصودة في الاقتباس هي ويندي شيرمان، وكيلة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، التي شاركت في مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني، وصدرت مذكراتها بعنوان “ليس لضعاف القلوب.. دروس في الشجاعة والقوة والمثابرة”.
قصة الصبر الاستراتيجي طويلة مع إيران، فقد كتب المرشد العام لإيران علي خامنئي مذكرات بعنوان “إنّ مع الصبر نصرًا”، وينقصها أنها تتوقف عند سنوات الثورة الإسلامية في إيران ولا تصل بنا إلى سنواته حاليًّا، وأصدر وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف منذ فترة باللغة الفارسية مذكّرات بعنوان “عمق الصبر”، وله حوار مطوَّل بعنوان “سعادة السفير”، وهو حوار طويل معه تحوَّل إلى حلقة وثائقية في برنامج “مذكّرات” على التليفزيون العربي. وكذلك صدرت مذكرات “رسائل الأسماك”، وهي شهادة الجنرال حسين همداني من الحرس الثوري الإيراني عن الحرب في سوريا ودور حزب الله في الحرب والدور العسكري الإيراني، وتحوَّلت أيضًا إلى حلقة وثائقية في برنامج “مذكّرات”. كل هذا كان مما زاد بُغضي في السنوات الماضية لمواقف إيران السياسية، خصوصًا موقفها في الثورة السورية، والتدخل في اليمن، وحالة العداء لطموحات الشعوب العربية. وهذا يدفع المرء إلى قراءة شهاداتهم، خصوصًا مع تسجيلهم شهادات كثيرة في التاريخ الشفوي للمقاتلين.
قصة صبح الشام
مِن المذكّرات المهمة التي صدرت، شهادة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، وصدرت ترجمتها العربية عن دار “المحجة البيضاء”، وتعكس المذكرات رواية الحرس الثوري الإيراني عن تغييرات المنطقة، خصوصًا أن وزير الخارجية الإيراني قد سجَّل مذكّراته ليعرف الشباب الإيراني معارك اللواء قاسم سليماني ومَن يسمّيهم الوزير “شهداء” الدفاع عن الحرم الزينبي. وقد قال سليماني للوزير في ذروة الأزمات وضغوط العمل إنه لم يتجاهل التفاصيل، وقد قال له قبل عام مِن قتْله إنه لا يمتلك الفرصة المناسبة لكتابة ذكرياته، وذلك بسبب انشغالاته الكثيرة، وطلب من عبد اللهيان كتابة ذكرياته في سوريا لتتناقلها الأجيال القادمة.
لقاء مع هيكل
يستشهد وزير الخارجية الإيراني بلقائه مع الصحفي محمد حسنين هيكل، إذ التقيا في اجتماع في القاهرة عام 2012، وقال له هيكل: “إننا لو تصوَّرنا العالم العربي كشفرتَي مقص، فستقع مصر في الوسط ما بين الشفرتين، بحيث لو حصل أي تغيير طفيف في هذا الوسط فسيكون تأثيره في طرفي الشفرتين، أي في العالم العربي”، وهذا اللقاء دليل على تشعُّب علاقات هيكل السياسية وتنوُّعها مع جميع الأطراف الفاعلة في الإقليم والعالم حتى نهاية حياته.
طبعًا سردية إيران هي صحة الربيع العربي في كل من مصر وتونس وليبيا والبحرين، بل يعتبرها الوزير أقرب إلى صحوة إسلامية، لكنه يرى الثورة في سوريا مؤامرة.
المؤامرة الكونية على سوريا وبشار الأسد
المؤامرة على سوريا من وجهة نظر وزير الخارجية الإيراني تقوم على مثلث مِن تحالُف أمريكي-إسرائيلي-سعودي لضرب المقاومة في سوريا، وهو تصوُّر ساذج وسخيف عن ظروف سوريا وتاريخها السياسي. تعكس المذكرات حالة الزهو والغرور الإيراني في منع سقوط الأسد، إذ دوَّنها وزير الخارجية قبل وفاته منذ عدة شهور وقبل سقوط نظام الأسد، ويذكر عبد اللهيان مكالمات أحمد داوود أوغلو وزير خارجية تركيا آنذاك في بداية الأزمة السورية، إذ كان يتصل الوزير التركي بنظيره الإيراني الدكتور صالحي ثلاث مرات على الأقل في الأسبوع، ويحذّر من أن بشار الأسط سيسقط قريبًا، ويردّ صالحي الإيراني بعدم الاستعجال.
ويتعجب وزير الخارجية الإيراني من سعي السعودية للتواصل مع روسيا لوقف الدعم ضد بشار الأسد، وينسى ما ذكره أمين حزب الله حسن نصر الله عن سفر قاسم سليماني إلى موسكو لإقناع بوتين بالتدخل العسكري في سوريا، فلماذا يَعتبر موقف السعودية خطأً وموقف إيران صحيحًا؟!
يعتقد عبد اللهيان أنَّ بشار الأسد شخص “صُلْب وقويّ في مواجهة الأزمة”، وقد سافر بنفسه إلى سوريا في بداية الأزمة والتقى مع بشار الأسد ودعاه وعائلته لزيارة إيران والتنقل بين طهران وأصفهان بهدف الاستراحة، ويروي أن بشار قال له إنه مَدين للإمام الخامنئي، وإنه عندما كان يدرس في أوروبا كان يزور المطاعم الإيرانية مرة في الأسبوع برفقة زوجته، وإنه يحبّ الطعام الإيراني. واعتذر بشار عن الزيارة في ذلك الوقت.
لكن السؤال هو: هل انخدع عبد اللهيان بحديث بشار الأسد، وهو الرئيس السوري المعروف بالكذب والخداع طبقًا حتى لشهادات مَن قابله مثل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، واستعداده للتفاوض حتى مع إسرائيل. وقد قال الأسد لكيري كما في مذكراته: “كل شيء قابل للتفاوض”، ووصف كيري شخصية بشار بقوله: “إنّ حركة التناقض في الكلام تصدر عن حاكم مستبدّ يفتقر إلى النضج، وهو يتفوّه بكذبة واضحة، وكانت لحظة كاشفة أفادتني بعد سنوات في المعضلة السورية، فالرجل الذي يكذب في وجهك مباشرة وهو على بعد أقدام منك، لن يصعب عليه أن يكذب على العالم بعد أن قتل شعبه بالغاز المسموم”؟ أم أنّ عبد اللهيان كان يحاول تبرير التدخل الإيراني للشعب الغاضب من مقدار ما صرف من أموال إيرانية لتثبيت حكم بشار الأسد، خصوصاً أنه يدّعي أن الأسد قد بدأ إصلاحات سياسية بسرعة عقب الثورة؟
تَذْكُرُ مذكّراتُ وزير الخارجية دورَ إيران في تزويد النظام السوري بشحنات ومساعدات بلغت في بعض الأحيان نحو 1500 شاحنة يوميًّا عن طريق العراق، فضلًا عن تزويد النظام بالمحروقات التي لم يدفع ثمنها نقدًا، وإنما اتفق على تصفية الحساب بأشكال أخرى.
يرى وزير الخارجية أن كل من انشقَّ عن بشار من مستوى الوزراء والمسؤولين مثل رئيس الوزراء رياض حجاب قد تلقَّوا تمويلًا خارجيًّا ووُعدوا بالمال للانشقاق، وأن بعض الضباط حصل على أموال ليتخلَّى عن جيش بشار الأسد. ولا يدرك الوزير الإيراني هول الفظائع التي ارتكبها النظام السوري والتي سرَّعت بانشقاق الضباط والقادة والتهرب من الالتصاق بالنظام المجرم.
يعتبر عبد اللهيان جبهة النصرة صنيعة صهيونية، وأن إسرائيل تعهَّدَت بالدعم التسليحي والمالي لهم، وهذه الأسطورة يتضح لنا فسادها مع وصول النصرة وهيئة تحرير الشام إلى سدة الرئاسة السورية وزيادة وتيرة العنف الإسرائيلي والقصف المتوالي وخوف إسرائيل من النظام الجديد.
في المذكرات عبَّر عبد اللهيان عن غضبه من دور الشيخ يوسف القرضاوي، واعتبره سببًا في تصاعد الحرب بين السنَّة والشيعة، ليس في سوريا فقط، بل في دول المنطقة كلها. وهذا أيضًا يتجاهل جرائم النظام السوري التي دفعت بالعلماء إلى الهجوم عليه، والتي لا تدخل فيها قضية الشيعة والسنَّة.
بالنسبة إلى تركيا، يوضّح وزير الخارجية الإيراني أنه على الرغم من الخلاف بين إيران وتركيا في الملف السوري، فإنّ إيران حرصت على عدم السماح بإلحاق الضرر بالعلاقات الممتازة مع تركيا رغم تعارض وجهات النظر، ويعزو الوزير ذلك إلى نوع من الحنكة والفن الذي أبداه الطرفان لأهمية الحفاظ على العلاقات الثنائية.
يقرأ وزير الخارجية تحولات حماس من النظام السوري باعتبارات ضيقة، وهي ميل حماس إلى الإخوان المسلمين وتصوُّرها أن سقوط بشار الأسد يعني وصول الإخوان إلى الحكم، لذلك قررت الجماعة ترك سوريا والابتعاد عن بشار. وهذا تصوُّر قاصر يقلِّل من الموقف الأخلاقي الذي قامت به حماس بالابتعاد عن نظام قاتل مجرم.
بعد وصول عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة في مصر، دُعيَ روحاني لحضور مراسم أداء السيسي القَسَم، فذهب عبد اللهيان ممثلًا عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية للمشاركة في الحفل بالتنسيق مع عمرو موسى كما يقول، وفي أثناء المصافحة في المراسم خاطب عبد اللهيان السيسي وقال له: “كان بيننا اتفاقات جيدة في أثناء حكومة مرسي. نحن نتطلع إلى مصر وشعبها، وما زلنا حتى الآن على استعداد لمتابعة ذلك الأسلوب، ولذلك كان حضوري إلى هنا ممثلًا للجمهورية الإسلامية في إيران، لأن نظرتنا إلى مصر التاريخية والحضارية هي نظرة استراتيجية”. واستمر الحديث لنحو دقيقة، وكانت وسائل الإعلام تنقل المراسم مباشرة، وبعد ذلك كان الوزير كلما ذهب إلى مكان يسأله الناس عن المسائل التي تحدَّث فيها مع السيسي خلال اللقاء.
هذه مجرَّد أمثلة من مذكرات وزير الخارجية الذي رحل بسقوط طائرته مع رئيس الجمهورية الإيراني في 19 مايو 2024، فقد تحطمت مروحية تُقِلّ حسين أمير عبد اللهيان والرئيس إبراهيم رئيسي بالقرب من بلدة ورزقان على الحدود الأذربيجانية-الإيرانية، وقد وُجد كلاهما ميتًا في موقع الحادثة.
تكشف المذكّرات عن تصورات إيران في قطاع منها عن فهمها لسياسة الإقليم ورؤيتها للدول المختلفة وتفسيرها للأحداث السياسية المهمة، وهي تمثل سردية من الأكاذيب وفساد النظر والغرور بقدرتهم العسكرية والاستخباراتية وقدرة سليماني على تغيير التاريخ! ثم ماذا؟ ماتوا بطائرة وسقطت خطتهم. سبحان الله!
من الجيِّد الاطلاع على المذكّرات ونقاشها، فهي لاعب مهمّ في الشرق الأوسط، ولْننتظر لِنرى حقبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونهاية الصبر الاستراتيجي وشهادات المفاوض الإيراني.