ثقافة
في التاريخ لحظات تختصر أمة، ورجال يجسّدون روحاً جماعية يتعذّر الإمساك بها في الكتب والمراسيم. ومن بين هؤلاء، يبرز اسم يوسف العظمة بوصفه رمزاً للفداء الواعي، والشهادة التي اتخذت شكل موقف سياسي، لا مجرد سقوط عسكري. لقد صعد إلى ميسلون لا ليمنع الفرنسيين من دخول دمشق، بل ليمنع التاريخ من أن يُكتب بلا مقاومة.
وُلد يوسف العظمة في حي الشاغور الدمشقي عام 1884، لأسرة ذات جذور ممتدة في حي الميدان العريق، المعروف بتاريخه النضالي ومكانته الدينية والاجتماعية. توفي والده في سن مبكرة، فتولى شقيقه تربيته، وحرص على تنشئته وفق تقاليد العلم والانضباط.
أظهر يوسف نبوغاً واضحاً في الدراسة، فتابع تعليمه في إسطنبول، وتخرّج من المدرسة الحربية عام 1903، ثم نال وسام المعارف الذهبي لتفوقه في الكلية العسكرية. تنقّل في المناصب العسكرية داخل الدولة العثمانية، وعمل مع ضباط ألمان، وراكم تجربة عسكرية كبيرة، جعلته مؤهلاً لقيادة جيوش حديثة، لولا انهيار السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى.
في ظل انهيار المركز العثماني، بزغت فكرة الدولة العربية المستقلة. ومع وصول الملك فيصل إلى دمشق، كان يوسف العظمة من أبرز رجال النخبة السورية الذين سعوا لبناء جيش وطني قادر على الدفاع عن الاستقلال الوليد. عُيِّن وزيراً للحربية عام 1920، في لحظة انتقالية محفوفة بالمخاطر، وكان عليه أن يقود مؤسسة عسكرية ناشئة في مواجهة طموحات استعمارية فرنسية متعاظمة.
أرسل الجنرال الفرنسي هنري غورو إنذاره الشهير في 14 تموز 1920، مطالباً الحكومة السورية بتسريح الجيش، ووضع السكك الحديدية تحت سيطرة الفرنسيين، وقبول الانتداب، وإلغاء التجنيد، والاعتراف بالنقود التي أصدرها البنك السوري الفرنسي. وقد منح دمشق أربعة أيام للرد، مهدداً بالغزو العسكري في حال الرفض.
كان قبول هذه الشروط يعني تسليماً صريحاً بالهيمنة الفرنسية. وقد وافق الملك فيصل، تحت ضغط العجز العسكري والتهديد المباشر، على تلك الشروط. غير أن يوسف العظمة، بصفته وزيراً للحربية، رفض تنفيذ القرار، وأعلن التعبئة العامة، قائلاً: “لن يدخلوا دمشق إلا على جثتي”.
لقد أدرك العظمة أن المعركة العسكرية خاسرة مسبقاً، لكن القبول دون مقاومة كان يعني منح الاحتلال شرعية الدخول دون ثمن. وكان يُدرك أن قيمة الدم حين يُسفك في مواجهة غير متكافئة، تكمن في معناه الرمزي، وفي قدرته على تشكيل الوعي الوطني الجمعي.
في فجر الرابع والعشرين من تموز، قاد يوسف العظمة قوة من المتطوعين، جلّهم من المدنيين، إضافة إلى ما تبقى من جنود الجيش السوري المسرّحين، وواجه بهم قوات فرنسية مدجّجة بالدبابات والطائرات والمدفعية الثقيلة.
ورغم التفوق الكاسح في العتاد، خاضت القوة السورية معركة شرسة على تخوم ميسلون. قاتل العظمة في الخطوط الأمامية، وانتقل بين المواقع يحثّ الرجال، ويطلق النار، ويصمد معهم تحت القصف. لم تكن المعركة متكافئة، لكن زمنها امتدّ أكثر مما توقعه الفرنسيون، الذين ظنّوا أنهم سيحسمون الأمر في دقائق.
وحين سقط العظمة شهيداً في قلب المعركة، كتب بذلك نهاية فصل قصير من التاريخ السياسي، وبداية فصل طويل من الذاكرة الوطنية.
لم تكن استشهاد يوسف العظمة خاتمة مأساوية لمعركة خاسرة، بل كانت تأسيساً للمعنى السياسي للمقاومة في الوعي السوري والعربي. لقد جسّد في موقفه جوهراً مركزياً: أنه لا سيادة بلا تضحية، ولا استقلال بلا تكلفة. لقد رفض أن تُسلّم البلاد إلى المحتل دون مقاومة، وفضّل الموت واقفاً على الحياة في ظل مذلة مفروضة.
ومع أن ميسلون لم تمنع الاحتلال الفرنسي من دخول دمشق، إلا أنها أحرجت المشروع الكولونيالي أخلاقياً، وأشعلت جذوة الكفاح في صدور السوريين، الذين سيواصلون بعد ذلك طريق الجلاء حتى خروج الفرنسيين في نيسان 1946.
يوسف العظمة لم يكن بطلاً رومانسياً، بل كان رجل دولة اختار، عن وعي، أن تكون حياته ثمناً لإضرام الثورة، وأن يكون موته بداية تاريخ جديد.
بعد مرور أكثر من قرن على معركة ميسلون، لا تزال سيرة يوسف العظمة تحتفظ بقدرتها على الإلهام، خصوصاً في ظل التحولات الجارية في المشرق العربي، حيث تعود مشاريع الهيمنة بأقنعة جديدة، ويُعاد طرح أسئلة السيادة والقرار والاستقلال في سياقات متعددة.
إن استحضار يوسف العظمة اليوم ليس ترفاً تاريخياً، بل هو حاجة سياسية وأخلاقية. فالأمم لا تحيا فقط بانتصاراتها، بل أيضاً بمواقف رجالها الذين ارتضوا أن يكونوا حجر الأساس. وإذا كان لكل شعب شهيده المؤسس، فإن العظمة هو شهيد الفكرة السورية، التي تقول إن الوطن لا يُباع، وإن السلاح لا يُسلَّم ما دام العدو لم يرحل.
في ميسلون يرقد جسد يوسف العظمة، لكن روحه لا تزال حيّة في وجدان الأمة. وعلى ضريحه، المحفور عليه ببساطة: “يوسف العظمة – وزير الحربية”، يتوقف الضباط في ذكرى المعركة، ويقرأ التلاميذ سيرة الشهيد، ويتعلم الجيل الجديد أن الكرامة الوطنية ليست شعاراً، بل مساراً مليئاً بالتضحيات.
إن استشهاد يوسف العظمة لم يكن حدثاً معزولاً في الماضي، بل هو فعل تأسيسي، شكّل الوعي السوري المعاصر، ورسّخ مبدأ أن من لا يقاتل دفاعاً عن بلاده، لا يملكها، ولو جلس على عرشها.