تأملات

التوحش من أين يبدأ؟

أبريل 15, 2025

التوحش من أين يبدأ؟

في لحظة من لحظات الانحدار الإنساني، يتحول الإنسان من كائن كرّمه الله بالعقل والروح والبيان، إلى كائن مفترس، لا يسمع إلا صدى غضبه، ولا يرى إلا عيوب غيره، ولا يبصر في أخيه المسلم إلا هدفًا للتشويه أو الخصومة أو الاستعداء. هناك، في تلك البقعة الداكنة من النفس، يبدأ التوحش. وتلك البقعة لا تنشأ فجأة، بل تُروى بخطاب الحقد، وتُسقى بتصورات الإقصاء، وتنبت في بيئة ضاع فيها الميزان وفُقد فيها الضابط.


ما عاد الخلاف بين المسلمين اليوم يدور حول تأويل أو فهم أو اجتهاد، بل صار سكينًا مسنونة، تُشهر في وجه كل من خالف، ولو في لهجة، أو اجتهاد، أو حتى في طريقة التعبير عن الوجع. بات بعض الناس لا يتوانى عن ضرب أخيه بالكلمة، أو الطعن في نيته، أو القفز إلى تكفيره واتهامه بالخيانة العظمى، وكأننا صرنا نقيس الإيمان بوحدات “التطابق الفكري”، لا بالرحمة والتقوى.

وهنا يتجلى السؤال المرّ: أيّ شريعة هذه التي تنبثق منها كل هذه القسوة؟ وأيّ دين هذا الذي يتحول فيه الأخ إلى عدو؟ ألسنا أبناء ملةٍ واحدة، تربينا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه”؟ كيف تهاوت تلك الأخوة حتى صارت جدرانًا من العزل والكراهية؟ إن الخلل ليس في الدين، بل في الأفهام المريضة، والنفوس التي استبدلت محكمات الشريعة بنزوات الأهواء.


وما أكثر ما رأينا هذا التوحش ماثلًا أمامنا، لا في ميادين الحرب، بل في ساحات الكلمة. على الشاشات، وفي منصات التواصل، وفي المجالس التي تحوّلت من حلقات ذكرٍ إلى موائد غيبة ونميمة وفتوى بغير علم. وإذا بالتوحش يتغلف بثياب الغيرة، ويتوشح برداء النصيحة، لكنه في جوهره قتلٌ معنويٌ متعمدٌ، لا يختلف كثيرًا عن القتل المادي في أثَره، بل لعله أشد؛ فالجرح المادي يندمل، أما جراح الظلم والافتراء فتبقى تتقيّح في الروح.

ولقد أنبأنا التاريخ، وحدثنا القرآن، أن مثل هذا السقوط يحدث حين لا يكون للوازع سلطان، ولا للرحمة مكان، ولا للعقل صوت. قال تعالى: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين”، فهل فشلنا إلا بعد أن تنازعنا؟ وهل ذهب ريحنا إلا بعد أن قطعنا أوصال أخوتنا بسكاكين التعصب وسيوف التصنيف.


إن الأمة التي لا تجتمع على قضاياها الكبرى، وتسمح لأعدائها أن يشمتوا بها وهي تذبح أبناءها فكريًا وسلوكيًا، هي أمة تهدر طاقتها في صراعاتها الداخلية، وتخسر قوتها قبل أن تبدأ المعركة. وحين ننظر إلى مشاهد المقاومة في غزة، وإلى صوت أبو عبيدة حين هزّ الأمة بندائه، ندرك أن اللحظة التاريخية تتطلب وحدة القلوب لا فرقتها، وتستدعي من المسلمين أن يرتقوا إلى مستوى التحدي لا أن ينحدروا إلى وحل الفُرقة والتلاعن.

ومن تأمل كيف ابتدأ الله سورة الأنفال، التي تحكي عن أول معركة فاصلة في تاريخ الأمة، يجد أن أول آية لم تكن عن السيوف ولا العتاد، بل عن ضبط النفوس وتنظيم الغنائم، كأن الله يعلّمنا أن أول إصلاح يبدأ من الداخل، من تقويم النفوس، قبل أن تشتبك الأيدي في ميادين المواجهة. ولو تأملنا هذا الأصل، لعلمنا أن التوحش يبدأ من خلل داخلي لا من خصم خارجي.

إننا بحاجة إلى إحياء فقه الأخوة، وإلى تعميق فقه الاختلاف، وإلى إعادة الاعتبار للأخ المسلم، ولو خالفنا، ولو اجتهد بخلاف ما نرى. بل إن الحاجة اليوم أشد إلى من يُرَشِّد الغضب، لا من يُشعل نيران الفتنة، ويزيد الزيت في مواقد السجال.


فيا من أشعلت لسانك نارًا في وجه أخيك، تمهّل، وقف مع نفسك وقفة صدق، واسأل: أأُبقي لي من الإسلام شيئًا إن أسقطت أخي في النار ظلماً؟! وإن أردت أن تغضب، فاجعل غضبك على الظالم لا على ابن دينك، فإن الشيطان لا يفرح بشيء كفرحِه بأخوينِ في الله يتقاتلان.

وها نحن أمام مفترق طرق، فإما أن نختار طريق الشيطان الذي يحرش بين الأحبة، ويفرق الصفوف، ويستثمر في كل كلمة تؤذي، وإما أن نعود إلى صف الأخوة، نضمّد الجراح، ونتعلم كيف نختلف دون أن نتحول إلى أعداء. فلنعد إلى الوحي، ولنتخلق بأخلاقه، لعل الله أن يصلح ذات بيننا، ويردنا إليه ردًا جميلًا.

شارك

مقالات ذات صلة