آراء
يُسرفُ “سامي ج” في شرب الحشيش حتى كأنّ جسمه لا يستقبلُ غيره، يخيفك منظره الضخم الغليظ، كما تخيفك قائمة جرائمه التي لم يترك فيها تصنيفًا إلا وخاض فيه، لن تعرف منه شيئًا لكنّك لن تتوقّف عن السّماع عنه كما أساطير الإغريق
ليس في جسده مقاس عقله إلا وفيها ضربةُ سيفٍ أو طعنةُ مغرازٍ أو بِشلاتٍ تقاطعت في طبقاتٍ بعضها فوق بعض، رائحةُ فمه تُدمع عينك ورقّة قلبه حين تعرفه وتقترب منه، تبكيك العمر كلّه
كان إذا ضرب أوجع، وإذا أصاب قتل، وإذا ضحك أبهج، كما لا يبكي جروحه العميقات، لكنّه يُتبعها بأبشع منها قبل أن يجفّ دمعه، لا يكره ولا يحب، لكنّه يفديك بحياته إن استجدعك، ويهدر دمك إن “استبضنك”، إذ لا تعنيه انت وحياتك في الحالتين.
جاورته في واحدة من أقسى تحارب العمر على الإطلاق، في معتقل القطا ٢٠١٠م، حين لم يكن إلا التعذيب والبرد في زنزانة أقبض من قبر.
سامي كان على ضخامته وغلظته مُستَخدَمًا من قبل مفتّش المباحث (أحد المتّهمين بقتل اللواء البطران، وأحد أكثر الأشخاص الذين أشرفوا على تعذيبي شخصيًّا، للمصادفة)، مقابل حشيشه والإتاوات التي يفرضها على المساجين، وهو يفعل ما أرادوا منه دون تمييز، يمكن أن يضرب فلانًا أو يسرق زنزانة أو يدسّ مخدّرات أو يشهد في محضر (حقق أرقامًا قياسيّة في عدد شهاداته أمام النيابة وكلّها زورًا)، وحدث أن مات سجينٌ يعمل ككهربائي في السجن صعقته الكهرباء فسقط عن السلّم الذي كان فوقه ليُتمّ مهمّته فأصيب دماغه ومات بعد نزيف.
كسر الجمجمة والنزيف ورواية تصليح الكهرباء لمسجون يتمّ استغلاله من قبل إدارة السجن، ووجوده في زنزانة أخرى وعنبر آخر دون مبرّر أو بند تحرّك، وغياب أي وسيلة حماية أو رعاية طبيّة بعد الإصابة، كلّها مخالفات قد تضع إدارة السجن في مأزق إداري أو جنائي، ولتجنّب وجع الدماغ ومشوار النيابة وسين وجيم، أحضروا سامي، وقالوا له “اتصرّف”، فتصرّف سامي، وطحن برشامًا مخدّرًا ومزجه بعصير، ثمّ أفرغه بأمعاء المسجون بأنبوب بلاستيكي، وسُحبت عينة وكتب في التقرير : مات بجرعة مخدّر زائدة، رغم كسور جسده وجمجمته والنزيف السابق على الوفاة، والتي تجاهلها الجميع في كلّ مرحلة حتى تسليم الجثمان لأهله.
لم يكن سامي مجرمًا بالضرورة، إنّما قبلها مجرّد “أداة تأديبيّة” تستخدمها السلطة، وهو بذلك واحدٌ من منتجاتها بقدر ما هو منفّذ لإرادتها، كما لم يكن وحشًا، بل ترسًا في ماكينة كما هو ضحيةٌ لها، لا كراهية لديه ولا لذّة في ارتكاب ما يرتكبه، بل فقط ينفّذ ما يُطلب منه للحصول على حصّته من الحشيش، وقضاء محكوميّة أقل إزعاجًا وقسوة.
لم تكن هذ الجريمة لإخفاء تعذيب أو تصفية مثلاً (وهو ما يحدث بالطبع)، بل فقط هذه المرّة لتجنّب “وجع دماغ” ضابط يودّ ألا يرهق نفسه بالانتقال إلى النيابة والإجابة على الأسئلة الروتينيّة وتحمّل عاقبة مخالفاته ومرؤوسيه، التي لن تتجاوز الجزاء والخصم في أقسى حالاتها، فما بالكم حين يكون القتل تعذيبًا، ما الذي ستفعله المنظومة للتغطية على جريمتها؟ وكم جهةٍ ستتواطؤ لإخفاء معالمها؟ أو إخفاء الجثّة ذاتها حين يفشلون؟ أو إجبار الأهل على الخَرَس؟
لعلّ الأسبق محاولة فهم: ما الذي تخشاه السلطة من الاعتراف بجريمة شخص ومعاقبته بعدالة؟ لماذا تقبل بهذه الأثمان الباهظة اللامتناهية لإخفاء أثر جريمة واحدة؟
الاعتراف بجريمة وسط منظومة تقوم أساسًا على مجموعات مختلفة من الجرائم بدرجات مختلفة، يعني لإقرار بحقيقتها كوحش، آلة قتل، عصابة في قصر الحكم، ولو كان الأمر على سبيل الاستثناء باعتبارها حالة فرديّة شاذة ارتكبها مارقٌ مخالفة للنهج المدّعى، ستكتشف المنظومة بعد قليل أن تاريخها تاريخ الاستثناء، سلسلة متّصلة من الشواذ وهو ما يؤدّي لذات النتيجة: فقدان شرعيّتها وتعرية وجهها الحقيقي كمنتج للجريمة ومتغذّي عليها.
والمنظومة هنا تفضّلُ أن تنتج شبكةً معقّدة من الأكاذيب والجرائم، على أن تواجه تكلفةً بسيطة بالاعتراف والمحاسبة، ربّما لأن الحقيقة في نظرها-كلّ حقيقة- خطرًا بالضرورة، وهي في سبيلها لذلك تورّط الكلّ في جريمتها هي، فتصبح إخفاء هذه الجريمة بإنكارها خدمة حماية متبادلة يقوم بها الجميع للجميع.
فهي قادرةٌ لا شكّ على الكشف والحساب والتجنّب، لكنّها اختارت دفع ثمن أكبر لتغطية الجريمة، لا لأنها عاجزة عن العقاب، بل لأنّ الجريمة نفسها هي وسيلتها في السيطرة ومن ثمّ البقاء.
في النهاية أثر جرائم السلطة في الناس، كالذنوب في القلوب، تنكَتُ نكتة سوداء، تتبعها أختها، حتى يموت القلب بتمام سواده، أو ينفجر الناس بتمام تراكم الثارات، فرديةً فجماعيّة، حينها لن تنفجر الأجساد الغاضبة بحقدها وثارها فحسب، إنّما-وهو الأخطر، وما يعنيني- تنفجر مفاهيم العدل ولثورة ذاتها، فتحدث الانتفاضةُ كما رسّخ السجّان فلسفةً وأدوات، لا كما نحلم بها ونتمناها، وهكذا تكون المنظومة/السلطة أنتجت نهايتها، لكن دون أن ننتج نحن خلاصنا.