أعيش في أحشاء الأرض، حيث لا ضوء يخترق، ولا هواء ينعش. هنا في هذا القبو السحيق، حيث تتحول الحياة إلى مجرد شبح يطارده الموت. لا بيوت تلمع بنوافذها، ولا بنايات تشير إلى السماء، لا دكاكين تعج بالباعة، ولا أسواق تزخر بالخيرات. حتى رائحة الخبز الطازج صارت ذكرى بعيدة. كل ما هنا هو الموت الذي يتنفس في وجهي مع كل خطوة.
الأرض هنا متعرجة، كأنها ظهر تنين نائم. كل خطوة هي مغامرة قد تودي بي إلى السقوط. الظلام هنا ليس مجرد غياب للضوء، بل كيان حي يلتصق بجلدي، يدخل إلى رئتيّ، يحتل عينيّ. نحن هنا مجرد ظلال تتحرك في قبو لا نهاية له، محكومون بأعمال شاقة تسحق العظام. نصيبك من الحياة هنا هو فقط ما تستطيع احتماله من ألم قبل أن تنهار.
في الليل، عندما يهدأ القبو قليلاً، أسمع العالم هناك في الأعلى. أصواتهم تتراقص على سقف قبونا، كأنها نجوم لا نستطيع لمسها. أحياناً أظن أنني أسمع ضحكاتهم، فينتفض قلبي كعصفور حبيس. خطواتهم تهز الأرض فوقنا، فألصق جسدي بالسقف الرطب، أحاول التقاط أي كلمة، أي همسة. أسمعهم يتحدثون عن أفلام شاهدوها، عن حبّ عاشوه، عن خططٍ لمستقبل لن يكون لنا فيه مكان. يخرجون عندما يريدون، يتجولون في شوارع لا تعرف القصف. يعودون مع الفجر وهم يتمايلون من السعادة، بينما نحن هنا نحسب الثواني كي لا نفقد عقولنا.
في الصباح، عندما يبدأ العالم هناك بالاستيقاظ، أسمع كل شيء. أصبحت خبيراً في تمييز الأصوات: صوت مفتاح في الباب، حفيف ملابس، ماء يجري في الأنابيب. أسمع الأمهات يوقظن أطفالهن، والآباء يعدّون الفطور. أحدهم يخفق البيض، آخر يغلي الحليب، ثالث يفتح علبة المربى. الروائح تتسرب إلينا كتعذيب إلهي. أحياناً أتعلق بقضيب الحديد الصدئ في السقف، وأحاول الدفع بكل قواي، كأنني أستطيع أن أحدث ثقباً في هذا السقف اللعين. أصرخ: “انتبهوا لي! أنا هنا في الأسفل!” لكن صوتي يضيع في متاهات الأنفاق.
أرى حياتي هناك معهم: نجلس حول المائدة، نضحك على نكتة سخيفة، نتناقش عن أشياء تافهة. لكن سرعان ما يعود الواقع ليصفعني. في الظهيرة، أسمع فتاة تدخل مكتبة صغيرة بجوارنا. تتحدث مع البائع عن الكتب التي تريدها. أغمض عينيّ وأتخيل أن تلك الفتاة هي أنا. أعدّ في ذهني قائمة بالكتب التي سأشتريها يوم نخرج من هنا: “الغفران” لحسن سامي يوسف، “شريد المنازل” لجبور الدويهي، وربما بعض دواوين نزار قباني. لكن سرعان ما يعود صوت المدافع ليقطع حلمي.
عند العصر، تبدأ روائح الطبخ بالانتشار مرة أخرى. هذه المرة رائحة مختلفة، حلوة ومألوفة. أجري في أرجاء القبو كالمجنون، أحاول تذكّر ما هذه الرائحة. فجأة، كالصاعقة، يتذكر جسدي قبل عقلي: “إنها كعكة البرتقال!” تلك التي كانت تصنعها أمي كل يوم أحد. أصرخ بكل ما في روحي من ألم: “أمي! انظري إليّ! أنا هنا!” لكن لا أحد يسمع. لا أحد يريد أن يسمع.
أعود إلى عملي في دفع العربة الصدئة، جسدي منهك لكن عقلي لا يتوقف عن التساؤل: كم من الوقت مضى منذ رأيت الشمس آخر مرة؟ ثلاث سنوات؟ خمس؟ عشر؟ الزمن هنا يذوب كالثلج في الجحيم. في تلك اللحظات القصيرة التي أسرق فيها أنفاساً من العالم هناك، أخدع نفسي بالكذبة الوحيدة التي تبقيني حياً: “سيأتي اليوم الذي نخرج فيه، وسأعيش كما يعيشون”. لكن في أعماقي، أعرف الحقيقة. نحن لسنا أحياء هنا، بل أشباح ترفض أن تموت. العالم هناك لا يعرفنا، ولا يريد أن يعرفنا. ربما، في النهاية، هذا القبو هو كل ما سنحصل عليه. ربما هذه الشذرات من الذكريات، هذه اللحظات المسروقة من حياة الآخرين، هي كل ما تبقى من إنسانيتنا.