في هذا العصر شديد التعقيد و المربك جدا، حيث تتبدّل خرائط النفوذ و طرائق الأفهام وتتداخل الثقافات المتنوعة وتتصارع ، ينهض هنا سؤال الهوية كجرح مفتوح في ضمير الإنسان المعاصر التائه، فالهوية لم تعد مجرد انتماء بسيط إلى وطن، أو لغة، أو دين، بل باتت معقدة، هشة، تتقاطع فيها طبقات من الانتماءات المتصارعة و المتنافرة .. بين الانتماء المحلي والعالمي، بين الارتباط التراثي والحداثي، و بين ما يفرضه الداخل من أفكار وما يغزو من الخارج من رؤى.
نجد الآن أن الإنسان المعاصر يعيش بين مرايا كثيرة ومتعددة ، فكل مرآة تعكس له صورة مختلفة عن ذاته وكينونته، وفي ظل هذه الأمور المتضادة، تنشأ أزمة: من أنا؟ من نكون؟ وما الذي يمكن التمسك به كجوهر لا يذوب في طوفان التغيير وتغييرات الرؤى و الأفهام البعيدة والتي لن تشفينا في اجابة هذا السؤال .. من أنا؟ ولمن أنتمي ؟ و ما هي هويتي ؟ و ما حدود تلك الهوية و من يحددها ؟
إن الأمر المخيف اليوم هو الهوية اليوم في ظل غياب تحديدها و الاجابة على تساؤلاتها ، تحوّلت إلى سلاح فتاك و قاتل للمعنويات ، فبعض النخب تتسلّح بهويتها لتمارس بها سلطتها الرمزية على غيرها، فتوزّع “صكوك الانتماء” وتحجبها عمن تشاء ، تُتهم فئات كاملة من المجتمع بعدم “الصفاء”، أو بـ”الانحراف الثقافي”، أو بالخيانة الرمزية للهوية، لمجرد أنهم يختلفون في رؤيتهم للذات أو في طريقة التعبير عن ما يجول في خاطرهم أمام الآخرين.
ففي هذا المشهد العنصري ، تُقابل الوطنية بالاتهام بالعمالة ، ودين المدعين يُحتكر من تيارات محددة، والتاريخ يُروى من منابر النخبة المحتكرة للهوية فقط ، فكل من يخرج عن السردية الرسمية لهؤلاء ، يُقصى ويُتهم بالجهل أو الانحراف أو التشكيك في الثوابت ، وبدلاً من أن تكون هناك مساحة لتعدد الهويات واحتضان الاختلاف، تتحول ادعاءات النخبة المحتكرة للهوية أحياناً إلى أداة قمع ، فتُقصي وتُعيد بالقوة و الارهاب تعريف “من يحق له أن يكون”.
ومن الخطورة أن يتم التسلط على الهوية أحيانًا من خلال عملية تجهيل ممنهجة ، فتُرسم صورة للهوية “الحقيقية” وكأنها حكر على طبقة معينة و أنهم الأعلون على غيرهم ، ويتم التشكيك في كل من لا يحمل ذات الخلفية أو المرجعية ، أو لا يتبنى ذات الرؤية التي تناسب ذوق النخبة المحتكرة للهوية ، ويُشيطن المختلف، لا بالمنطق، بل بتهم ضبابية مثل “تغريب”، “تفريط”، أو حتى “تمرد على الجذور” و ” الدخلاء “.
فهذا التجهيل ليس ساذجًا، بل يُمارس بذكاء وخبث ، فيُنتج منهج تعليمي أحادية إقصائي، وإعلامًا يردد سرديات منتقاة، ونقاشات عامة تنبذ كل ما هو خارج عن السائد. وهكذا، بدلاً من أن تكون الهوية أداة للتحرر، تتحول إلى أداة للضبط والسيطرة.
فهل بعد ما ذكرته سابقا يكون داعيا الى الاستسلام لهؤلاء النخبة المحتكرة وزعامتها المزعومة للهوية ؟ أم أن الطريق المثمر لا بد أن يكون فيه من العوائق ؟ لذلك فالخروج من أزمة الهوية لا يكون بتفكيك الهويات، بل بإعادة تركيبها على أساس الاعتراف بالاختلاف والتعددية. والإنسان يمكن أن يكون مواطنا و عربيًا ومسلمًا وعالميًا في آن واحد، دون تناقض. فيمكن أن يحمل في وجدانه ذاكرة قبلية وأفقًا شعبوية ، دون أن يُتهم بالانفصام ـ بل يمكن أن يعيد تأويل التاريخ ليصنع مستقبلًا أكثر عدلًا، دون أن يُحسب على “التيارات الهدامة”.
إن أقل ما نحتاجه هو نقد نُخبوي للهوية لا يجعل منها أداة تمييز، بل مساحة للقاء الحضاري بين أفراد الشعب أو الملة أو الأمة الواحدة ، و نحتاج أيضاَ لنخبة لا تتعالى على الآخرين، بل تحفر في العمق لتكشف عن القواسم المشتركة والممكنات المشتركة بين الهويات المتعددة.
ولنتذكر دائما .. أن الهوية ليست صنمًا يُعبد، بل نصًّا يُعاد تأويله ، وما لم نتحرر من هذا الوهم الذي يعتري الهوية ، فسنبقى سجناء صراعات لا تنتهي، بين نخبة تدعي امتلاك الحق في الانتماء ، وجموع تُتهم دومًا بأنها لا تعرف من تكون وفي موضع الاتهام .