آراء

وجه نوح الشغنوبي وصوت رفعت رضوان!

أبريل 12, 2025

وجه نوح الشغنوبي وصوت رفعت رضوان!

كلّما فكّرت في فلسطين تراءى لي وجه نوح، وصوت رفعت، إنّهما حقيقتان ملموستان، ولا أملك إلا أن أكون فخورةً بانتمائنا إلى الوطن ذاته.

أستطيع أن أقول بأنّ رجال الدفاع المدني والإسعاف هما جهاز الأوكسجين الأخير المتبقي لرئة غزة النازفة، هذان الفريقان كلّما شدتنا آلة الحرب الإسرائيلية إلى الموت، كانا يقفان ويشداننا إلى الحياة في مشهدية تتفوق على كل سرديات الصمود التي سردها التاريخ،

لأسباب كثيرة أهمها أنّ رجالنا يعملون في إمكانيات تكاد تكون معدومة، إنّهم يحفرون بأصابعهم من أجل إنقاذ صوتٍ ما يزال حيّاً تحت أنقاض عمائر سكينة كبيرة وطبقات كبيرة من جبال الأسمنت المنسوفة.


وتحت تهديد صريح من قبل الاحتلال لإعادة قصف فرق الدفاع المدني والاسعاف وإعادة قصف المكان نفسه الذي قُصف وقد حدث هذا مراراً وتكراراً

اختار نوح أن يخاطر بنفسه لينقذ رجلاً عالقاً تحت الركام، في ذلك الوقت أخبره زملاؤه أنّ عليه الخروج من المكان وتركه، إلّا أنّه رفض ذلك، وحين قال له الرجل الجريح اخرج واتركني، قال له نوح: (سأموت معك).

توقفت كثيراً عند عبارته الأخيرة؛ فكيف يختار شخص في العالم أن يموت برفقة شخص آخر يراه للمرة الأولى في حياته، ولا يعرف أيّ شيءٍ عنه ولا حتى اسمه، لكنّه يقول له بكل ثقة سأموت معك!

والحقيقة أنّك لا تصبحُ إنساناً فجأة .. !

وإنّما هي محطاتٌ طويلة خاضها نوح في حياته من ترقيات الرحمة حتى تجلّت عليه الرحمانية الإلهية في أعظم صورها، وهو أن يختار الموت مع رجل لا يعرفه!


من هنا اختار الله عز وجل أعظم صفة للرسول ﷺ وهي (رحمة للعالمين)، تلك الرحمة التي لمسناها في السيرة النبويّة مع كل شيء، مع الظبي والحمامة والحجر وجذع النخلة ومن حفيديه الحسن والحسين، وحين غنائه مع آل النجار، تلك الرحمة ذاتها هي التي دفعته أن يختار الدعاء لأهل الطائف وهو في أشد لحظات تعرضة للإيذاء منهم، متفوقاً برحمته على كل المدارس الإنسانية في الشرق والغرب وعبر الحضارات كلّها.


إنّ ذلك النبي ﷺ، الرحمة المهداة، الذي أوقفه أنين حمامة، شكت إليه أخذ فرخيها منها، فما كان منه إلا أن نادى على من أخذ فرخيها وأمره أن يردهما عليها،  لا أستغرب جدا أن يكون من أمّته ( نوح )، وأن يصطفيه أيضاً ليقول لرجل جريح لا يعرفه (سأموت معك).

أمّا رفعت رضوان، لم يكن يعرف أنّه يصوّر لحظة استشهاده، لكن الله عز وجل أراد له أن يوثق جريمة من إحدى جرائم الاحتلال النازي، لقد كان يبحث عن الناجين من القصف، ويدعو بأن يجد أحدا على قيد الحياة في اللحظة التي أعدمت فيها قوات الاحتلال طاقم الإسعاف والدفاع المدني عن بكرة أبيهم، وحين أدرك رفعت أنه ملاقٍ ربّه لا محالة، قال (يا ربّ تقبلني شهيدا، وتب علي، وسامحيني يُمة أن اخترت هذا الطريق عشان أساعد الناس).

باعتقادي الشخصي أنّ كلمات المسعف رفعت هذه هي أفضل من كل الكتب التي تتحدث عن منن الإحسان وجبر الخواطر وإلخ.


عبارة واحدة استطاع رفعت بها أن يصحح مسارات كثيرة عند كلّ شخص سيسمع هذا التسجيل من حول العالم، لقد قال لنا بطريقة ما (أنا أعلم أنني سأموت بينما أساعد الناس وأقوم بإسعافهم ولكنني مستمر في ذلك حتى آخر شهقة) وقد كان …

ما أصدقك يا رفعت، هذه النيّة الخالصة لله عز وجل والصادقة تأخذني إلى قصة الأعرابي الذي قال للنبي ﷺ: اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا بسهم فأموت فأدخل الجنة. قال ﷺ: ((إن تصدق الله يصدقك))، فلبثوا قليلاً وهاجموا العدو وأثاب الله الأعرابي كما طلب فقيل أهو أهو؟ قال ﷺ: ((صدق الله فصدقه)) فكُفِّن في جبة النبي صلوات ربي وسلامه عليه.

طريق الصدق ليس سهلاً، ولكنَّ له علامةً واحدة وهي (النتيجة)، فكلّما تطابقت النتائج مع ما تسمو إليه كانت النيّة صادقة، وإن كان من نتيجة عظيمة، فلا أعظم من الشهادة في سبيل الله، أو السير في هذا الطريق الذي يحتاج الكثير من المجاهدات والصدق.

هناك عدد من صحابة النبي ﷺ ما يزالون يعيشون في غزة، لم يقابلوا جنابه الشريف ولم يعيشوا معه ولم يقاتلوا بجانبه ولم يأكلوا معه في قصعة الطعام ذاتها، لكنّهم أكثر من أصحابه أيضاً، لأنّهم استرشدوا به في هذه المحنة الصعبة وكانوا أعظم مثالٍ على رحمة الله في أرضه، وقد أخلصوا وصدقوا الله فصدقهم ورفع ذكرهم في العالمين.


رحم الله المسعف رفعت رضوان وكل طاقم الإسعاف والدفاع المدني المكون من 14 فردا الذين أعدمهم الاحتلال بدم بارد، وحسبنا أنّ الله شاهدٌ وأنّ هذا الكرب النازل بنا مشهود وأن ربّنا عليم خبير حكيم ويمكر لنا وإن تخلّى عنّا كل أهل الأرض.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

شارك

مقالات ذات صلة