سياسة
في صباح الحادي والثلاثين من مارس 2025، وعلى تخوم مدينة تين زاوتين الواقعة في أقصى الجنوب الجزائري بمحاذاة الحدود المالية، دوّى صوت سقوط طائرة مسيّرة تابعة للجيش المالي بعد أن اخترقت المجال الجوي الجزائري لمسافة تقدَّر بكيلومتر ونصف، حسب الرواية الجزائرية. تجاوزت الحادثة مجرد خرق عرضي لسيادة دولة في نظر الجزائر، لتمثل نقطة التحوّل الحاد في مسار العلاقة بين الجزائر وباماكو، وأعادت ترتيب الخرائط الصامتة في عمق الساحل الإفريقي. من جانبها، نفت الحكومة المالية هذا الادعاء، مؤكدة أن الطائرة كانت تحلق داخل المجال الجوي المالي ولم تخترق الأجواء الجزائرية. واعتبرت باماكو إسقاط الطائرة “عملاً عدائياً متعمداً، وحماية جزائرية للإرهابيين”
ردّ مالي جاء سريعًا. ففي الثاني من أبريل، أعلنت استدعاء سفيرها لدى الجزائر، في خطوة لم تتأخر النيجر وبوركينا فاسو في محاكاتها، بوصفهم شركاء في “تحالف دول الساحل”. وردّت الجزائر في الرابع من أبريل باستدعاء سفرائها لدى الدول الثلاث، وأغلقت مجالها الجوي أمام كل الرحلات المدنية والعسكرية القادمة منها أو المتجهة إليها، وهو ما أشار إلى تصعيد غير مسبوق في العلاقات المغاربية-الساحلية.
في تصعيد إضافي، أعلنت مالي في 6 أبريل 2025 انسحابها من “لجنة الأركان العملياتية المشتركة” (CEMOC)، التي تضم الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا، والتي تأسست عام 2010 بهدف تنسيق الجهود الأمنية في منطقة الساحل. بررت مالي هذا القرار بالتصرفات الجزائرية الأخيرة، معتبرة أن إسقاط الطائرة المسيّرة يُظهر عدم احترام الجزائر لسيادة مالي.
الحقيقة أن هذا التوتر لم يكن معزولاً، بل جاء في سياق تراكمي بدأ منذ مطلع عام 2024. ففي السادس والعشرين من يناير، أعلنت الحكومة المالية، التي يهيمن عليها المجلس العسكري بقيادة العقيد أسيمي غويتا، انسحابها من اتفاق الجزائر للسلام والمصالحة، مُرجِعةً القرار إلى ما وصفته بـ”التحيز الجزائري تجاه الحركات الأزوادية”. انسحابٌ كان بمثابة الطلاق السياسي من آخر مسعى إقليمي لتطويق نيران الشمال المالي. الجزائر، التي طالما حاولت لعب دور الوسيط الضامن لاتفاق السلم والمصالحة في مالي عام 2015، لم تتردد هذه المرة في إسقاط الطائرة، معتبرة إياها “مناورة عدائية صريحة”. بيان وزارة الدفاع كان حازماً، وأرفق برسالة سياسية: المجال السيادي الجزائري ليس ساحة مفتوحة للمغامرات العسكرية.
وهنا يدرك الجيوسياسيون أن إسقاط المسيرة لم يكن سوى عرضٌ متأخر لمرض سياسي وأمني متفاقم. مالي، التي اقتربت استراتيجيًا من روسيا، باتت ترى في الجزائر وسيطًا منحازًا لحركات الطوارق التي تحمل أحلام تقرير المصير. في المقابل، تنظر الجزائر إلى انقلاب باماكو على اتفاق السلم باعتباره نسفًا لمنظومة إقليمية حاولت الحفاظ على تماسك الهشاشة، لا على صناعة الاستقرار.
جوهر الأزمة
في العمق، ما يحدث بين الجزائر ومالي، لا يُمكن اختزاله في مجرد “حادثة تقنية” أو “انتهاك جوي” عابر. المسألة أعمق بكثير، وجوهرها سياسي بامتياز. نعم ففي تقديري الخاص، لم تكن حادثة إسقاط الطائرة المسيّرة المالية مجرّد خطأ تقني، ولا مجرد ردّ على خرق سيادي عابر. ما حدث هو إعلان سياسي صريح، رسالة أرادت الجزائر إيصالها بلغة الطائرات لا البيانات: نحن هنا، ولسنا على الهامش. نحن من يملك حق القول الفصل فيما يجري في فضاء الساحل، وهو امتدادنا الاستراتيجي، ولن نسمح لأي أحد – مهما بلغت جرأته – أن يعيد رسم ملامحه دون أن نكون حاضرين على الطاولة أو على الأرض.
فاللافت في كل ما جرى، أن الجزائر لم تكن تحت ضغط عسكري أو تحدّ أمني مباشر يستدعي قرارًا بهذا الثقل. ففي الأيام التي سبقت إسقاط الطائرة، استقبل وزير الخارجية الجزائري السفير المالي الجديد، محمد أماغا دولو، حيث قدّم أوراق اعتماده بشكل رسمي. وهذا يعني أن قنوات التواصل كانت مفتوحة، وأن بإمكان الجزائر – لو أرادت – أن تسلك الطرق الدبلوماسية لاحتواء الخرق. لكنّها لم تفعل، ما يُرجّح أن القرار اتُّخذ لتوصيل رسالة لا لباماكو فقط، بل للعواصم الإقليمية كذلك.
فالجزائر – وهي تنظر إلى نفسها بوصفها القوة المقررة في معادلات الساحل – شعرت خلال الأشهر الماضية أن كثيرًا من الأوراق تُسحب من تحت قدميها: مالي انسحبت من اتفاقية الجزائر، وبدأت تقترب سياسيًا وأمنيًا من قوى غير تقليدية في الفضاء الإقليمي. كل هذه التبدلات قرأتها الجزائر كمحاولة لانتزاع نفوذها من الجنوب، فجاءت الطائرة المسيّرة كذريعة لكسر هذا المسار، وإعلان أن الفضاء الجوي ليس وحده من يجب احترام سيادته، بل النفوذ السياسي أيضًا.
لكن الإشكال لا يكمن فقط في الفعل الجزائري، بل في عقلية التحليل المتبادل بين الجانبين. في الجزائر، هناك قراءة ترى أن كل ما تقوم به مالي مؤخرًا هو نتيجة تحريض من الرباط أو توجيه من أبوظبي. وهذا النوع من التفكير يفتقر للحدّ الأدنى من الاحترام لصانع القرار في مالي، وكأن باماكو عاجزة عن اتخاذ قرارها الداخلي، وكأن منطقة الساحل لا تزال حديقة خلفية تُدار من الخارج، لا من داخلها.
وبالمقابل، نجد أن باماكو تتبنّى خطابًا أكثر حدّة، إذ ذهبت إلى حدّ وصف الجزائر – عبر أصوات رسمية – بأنها “دولة راعية للإرهاب”. وهو خطاب يعكس قصر نظر سياسي خطير. لأن الجزائر، التي كانت تاريخيًا داعمة للثورات في القارة، ووقفت مع مالي في محطات مفصلية، لا يمكن أن تتحوّل بين ليلة وضحاها إلى قوة تخريبية دون أن يُسائل أحد نفسه: من المستفيد من تصدع العلاقة بين الجزائر ومالي؟
والأخطر من كل ذلك، أن هذه اللغة لا تبقى في حدود القاعات الرسمية، بل تنتقل بسرعة إلى وعي الشعوب، فتصبح مشاعر الكراهية والتخوين خطابًا عامًا، يصعب تفكيكه لاحقًا حين يحتاج الطرفان إلى التلاقي مجددًا. فهل من المنطقي أن تصف مالي الجزائر، التي كانت تقف إلى جانبها بالأمس، بأنها دولة راعية للإرهاب، ثم تعود بعد شهور لتُبرم معها اتفاقات أمنية وتنموية؟ وما الضمان أن لا يُعاد إنتاج هذه الحلقة من الشكّ كلما دبّ الخلاف بين الطرفين؟
المشكلة في جوهرها، أن شمال أفريقيا لم ينجح بعد في تطوير وعي استراتيجي حقيقي تجاه أفريقيا جنوب الصحراء، لا تزال عقلية الوصاية هي السائدة، فيما ترى القيادات هناك أن أي تحرك في الجنوب لا بدّ أن يكون بتحريض خارجي. أما أفريقيا جنوب الصحراء، فما زال يرزح تحت عقدة التاريخ، ويُعيد تدوير الاتهامات ضد من كان حليف الأمس، بمجرد تغيّر المعطيات.
المآلات الجيوسياسية للأزمة
إنّ ما تخشاه الجزائر في منطقة الساحل، قد تدفع بنفسها إليه، بطريقة تبدو – في ظاهرها – حازمة، لكنها في العمق تحمل قدرًا كبيرًا من التسرع وسوء التقدير. فإسقاط طائرة استطلاع مالية – كحلٍ أحادي الجانب – لم يكن مجرد ردّ عابر على انتهاكٍ جوي، بل تصرفًا سياسيًا يشي بأنّ الجزائر باتت تتعامل مع محيطها الجنوبي بمنطق “فرض السطوة”، لا منطق التفاهم الاستراتيجي.
وهنا تكمن المفارقة: فكلما بالغت الجزائر في إظهار القوة، وبعثت برسائل تهديد مضمرة أو معلنة لدول الجوار في الساحل، منحت خصومها الحقيقيين فرصة ذهبية لتوسيع نفوذهم في عمقها الاستراتيجي. لا لأنّ دولًا مثل مالي أو النيجر أو بوركينا فاسو تتربص بالجزائر أو تحمل نية الطعن من الخلف، بل لأنّ هذه الدول، وهي تدرك فارق القوى الشاسع بينها وبين الجزائر، تبحث عن تحالفات بديلة تضمن لها التوازن و”احتواء” النفوذ الجزائري المتعاظم. وهكذا تتحقق ما يُعرف في علم السلوك السياسي بـ”النبوءة ذاتية التحقق”: تفسّر تحركات جارك كعداء، فتتخذ بناءً على هذا الفهم سلوكًا عدائيًا، ثم تدفعه – موضوعيًا – إلى الانخراط في تحالفات تُثبت صحة مخاوفك.
وإن حدث ذلك، فستكون الجزائر قد دفعت دول الساحل، بيدها، إلى أحضان خصومها، في مشهدٍ يعكس هشاشة في الرؤية الاستراتيجية. والمؤسف أنّ الجزائر – بكل ما تملكه من عمقٍ تاريخي، وتفوقٍ عسكري واقتصادي – كان يُفترض أن تكون هي الضامن الطبيعي لاستقرار الساحل، لا عامل التوتر فيه.
إذ ثمّة حقيقة جغرافية وسياسية لا يمكن محوها: الجزائر ليست مجرّد دولة جوار لمالي ودول الساحل، بل هي الامتداد الطبيعي لها، قدَرٌ جغرافي لا مفرّ منه. ولهذا، فإنّ دفع هذه الدول نحو المعسكرات المناوئة – سواء كان ذلك عن وعي أو نتيجة سوء تقدير – هو خسارة مزدوجة: للأمن الإقليمي أولًا، ولرصيد الجزائر الرمزي في إفريقيا ثانيًا.
أما على الضفة الأخرى، فإنّ استخدام لغة “الجزائر الراعية للإرهاب” من قِبل بعض القيادات المالية لا يقلّ فداحة. هذا السقوط في خطاب الوصم، حتى وإن كان مدفوعًا بردّة فعل على حملات إعلامية جزائرية وُصفت فيها حكومات الساحل بـ”الانقلابية والدموية”، لا يبرر الانزلاق إلى توصيفات تخدم بالأساس خصوم الجزائر وخصوم القارة بأكملها. فبين الجزائر ومالي تاريخ مشترك من التضامن والمواقف الحاسمة.
وفي المحصلة، فإنّ ما يحزنني – كمراقب يؤمن بإفريقيا موحدة – ليس فقط انهيار الخطاب السياسي إلى هذا المستوى من التلاسن، بل ذلك الفقدان التام للبوصلة الاستراتيجية من الطرفين. فالجزائر، التي كانت تُرى سابقًا كندٍّ لفرنسا وإسبانيا والغرب عمومًا، باتت اليوم تستنزف طاقتها في مشاحنات مع دول أنهكتها الانقلابات والصراعات الأهلية. وإن كانت الجزائر فعلاً ترى في مالي خصمًا يُستحق تلقينه درسًا، فهل في ذلك شرف؟ وهل في مناكفة الضعفاء مجدٌ لمن يراها قارة تمتد من المتوسط إلى أعماق الساحل؟
ما يحدث اليوم هو أزمة رؤية، وتفسير الخصومة كتآمر دائم. وأزمة مشروع مغاربي/ساحلي كان يمكن أن يكون نموذجًا للاستقرار والتكامل، لكنه انهار – مرةً أخرى – تحت ركام الحسابات الخاطئة والعناد السياسي وسوء الظن المتبادل.