آراء
تُعرف الثورات بقائدها، وغالبًا ما تنتهي باغتياله أو إعلانه انتصارها، ولكن هل سمعت عن الثورة التي اندلعت بعد استشهاد قائدها؟
ومن لم يسمع عنها؟ إنّها الثورة الفلسطينية الكبرى المعروفة بثورة عام ١٩٣٦، ثورة القسام، التي اندلعت بعد أشهرٍ من استشهاده في أواخر عام ١٩٣٥، فكيف كان ذلك؟
عاش الشيخ عزالدين ثائرًا، فمنذ أن دخل مصرَ طالبًا العلم، انخرط في التكتلات الفكرية المقاومة للانتداب، وما إن عاد إلى سوريا، حتى بدأ العمل على مجابهة الفرنسيين وإسناد الثورة اللّيبية، حتى انتقل إلى فلسطين ليواجه مخطط التهويد.
وصل شيخ المجاهدين، كما لُقِّب فيما بعد، إلى فلسطين مغادرًا جبال صهيون بصحبة ثلة من رفاق الدرب، واستقر في حيفا، وكان ذلك عام ١٩٢٠. عمل مدرِّسًا ومأذونًا شرعيًّا وتولّى إمامة مسجد الإستقلال الذي عمل على بنائه، لتكون هذه وسائله الثلاثة لاجتياح قلوب الشعب الفلسطيني، الذي كان يعاني بطش المستعمر الماضي في مخطط التهويد وتمكين العصابات الصهيونية. في ظاهر الأمر، كانت هذه هي وظائفه وحسب، التي من المفترض أن يكتفي بها رجال الدين، ولكن ما خفي كان أعظم.
الشيخُ الثائر، لم يترك جبال صهيون الوعرة ليخطب بالناس في حيفا ويكتفي، بل كان يؤسس لمشروعٍ سيأرِّقُ العالم حتى يومنا هذا. إنّها عُصبةٌ، عُرفت باسمِ العُصبة القسامية، ولم يُعلم اسمها الحقيقي بتاتًا لشدة سريَّتها التي استمرّت ما يزيد عن ١٦ عشر سنة!
وكان الشيخُ مدركًا، أن استمرارية المشروع يحتاجُ لحاضنة تحميه، فكان الأجرأ على المنبر، وتفرَّد بالتحريض على المستعمر وحتى موظّفي بلدياته، على مبدأ أن لا اعتراف له ولحكومته حتى في أعمال الخير كتنظيف الشوارع. وبذلك جذب الشيخ أنظار وأسماع الجميع بصدقه، شعبًا ومُستعمرًا، وأدرك البريطانيون حجم حاضنته حين تم اعتقاله على خلفية إحدى خُطبه النارية لتشتعل الشوارع والاعتصامات حتى اضطرّ المفوض السامي أن يفرج عنه.
كلُّ هذا كان رديفًا لمشروعه السري، البعيد عن الأنظار، فكانت عصبته تنفِّذ العملية تلو العملية، بسريَّة فائقة، ولم تتوقف حتى خلال أيام اعتقاله، وكان ذلك الاختبار الأول لتلك العصبة، وكان نجاحها باهرًا. ومرَّت الأيام والسنوات، والشيخُ عزالدين يبني حاضنةً مُقاوِمة نهارًا، ويدرِّب ويستقطب ويجنِّدُ ويجهّز لثورته ليلًا، حتى استطاعت حكومة المستعمر أن تصل إلى الخيوط التي توصلها إلى وجود عصبة مدرّبة يقودها الشيخ عزالدين، هي المسؤولة عن كل العمليات التي كانت تحدث وتتعاظم.
فحاصرته في أحراش يعبد في جنين على حين غفلة، واشتبكت معه ومع رفاقه الثلاثة عشر بما يزيد عن ٤٠٠ عنصر، لمدة ٦ ساعات، حتى ارتقى شهيدًا بعد أن رفض كل العروض لتسليم نفسه، وقال كلمته التي تصدح في كل العالم اليوم، إنه لجهاد نصرٌ أو استشهاد، وكان ذلك في ١٩ تشرين الثاني من عام ١٩٣٥.
ظنَّ البريطانيون أنهم قضوا على العصبة القسامية، وأنَّ أفرادها لم يتجاوز عددهم الثلاثة عشر، ولكن المشروع السري للشيخ كان أكبر من ما يتخيلون. عُقَدٌ قتالية، وزُمرٌ من المقاتلين لا تتجاوز الخمسة عناصر، ومواقع سرية، وفرقٌ استخباراتية، والأهم، حاضنةٌ شعبية تريد الثأر له.
واستمرَّ التحضير للثورة كما كان القسام مخطِّطًا رغم رحيله، لتنطلق بعد استشهاده بأشهرٍ الثورة الفلسطينية الكبرى في شهر نيسان من عام ١٩٣٦، وتفجِّرَ حاضنته مفاجأتها، عصيانٌ مدني شامل، شلَّ أركان حكومة الانتداب، بل وهزَّ الإمبراطورية البريطانية بأسرها، لتستعين بريطانيا العظمى بملكَي السعودية والعراق وأمير شرق الأردن لإقناع الفلسطينيين بفك إضرابهم الذي استمر ستة أشهرٍ كاملة إسنادًا للثوار الذين أثخنوا في المستعمر وأنهكوه.
عصيان مدني لستة أشهر وثورةٌ مسلحة لثلاث سنوات، على خطى الشيخ عزالدين، قائد الثورة وراسم مسارها ومؤسس عصبتها، ليكون مطلقَ الطلقة الأولى في تاريخ القضية، وتكون ثورته هي الوحيدة في التاريخ التي تنطلق بعد استشهاد قائدها، وليبقى اسمه مرفوعًا في العالمين على جباه رجالٍ فهموا أنَّ الموت ليس النهاية، بل إمتدادٌ لبدايةٍ أسطورية حفرت مشروعها إلى أبد الآبدين.