آراء

أمريكا من قيادة العالم إلى هندسة الفوضى والاضطرابات

أبريل 10, 2025

أمريكا من قيادة العالم إلى هندسة الفوضى والاضطرابات

منذ نهاية الحرب الباردة، قدمت الولايات المتحدة نفسها كقائدة للعالم الحر وحاملة لواء الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنها في الواقع تبنت سياسات قائمة على القوة والهيمنة متجاهلة القوانين الدولية ومعايير العدالة. واليوم نشهد تحولًا جذريًا في ملامح النظام الدولي حيث تتجلى الفوضى والازدواجية بشكل غير مسبوق في سياسات الإدارة الأمريكية التي لم تعد تتورع عن ممارسة البلطجة السياسية والاقتصادية على نطاق واسع. لم يكن هذا النهج وليد اللحظة بل هو امتداد لتاريخ طويل من التدخلات العسكرية والسيطرة المالية والابتزاز السياسي، وصولًا إلى مرحلة أكثر وضوحًا ووقاحة في عهد الرئيس دونالد ترامب الذي عزّز الصورة الحقيقية لواشنطن كدولة لا تعترف إلا بالقوة والمصلحة الذاتية. تُعد الهيمنة المالية إحدى أقوى أدوات واشنطن في إحكام سيطرتها على النظام العالمي، فمنذ اتفاقية “بريتون وودز” عام 1944 فرضت الولايات المتحدة الدولار كعملة احتياطية عالمية، ما منحها سلطة استثنائية على التجارة والاقتصاد العالمي.


على الرغم من أن هذا النظام كان في البداية قائمًا على ارتباط الدولار بالذهب إلا أن الرئيس ريتشارد نيكسون قرر في سنة 1971 إنهاء هذا الارتباط مما سمح لواشنطن بطباعة الدولار دون قيود، وأتاح لها تمويل حروبها وسياساتها التوسعية بلا حساب، على حساب استقرار الاقتصاد العالمي. هذا القرار لم يكن مجرد إجراء مالي بل كان خطوة استراتيجية عززت قدرة الولايات المتحدة على استخدام الدولار كسلاح اقتصادي من خلال فرض العقوبات الاقتصادية على الدول التي تعارض سياساتها، مثل إيران وكوبا وروسيا، وحتى حلفائها أحيانًا.كما لم تعد الإدارة الأمريكية الحالية تكتفي باستخدام قوتها الناعمة بل باتت تعتمد بشكل فجّ على القوة العارية، سواء عبر فرض العقوبات الاقتصادية أو تسليح النزاعات أو استخدام النفوذ الدبلوماسي لإخضاع الدول الأخرى. وبدلًا من أن تقدم نموذجًا قياديًا مبنيًا على القيم والمبادئ أصبحت تمارس سياسات تقوم على الازدواجية والانتهازية، حيث تُشعل الحروب بحجة الدفاع عن الديمقراطية، لكنها تغض الطرف عن الجرائم عندما تخدم مصالحها الجيوسياسية. هذا التحول في السلوك الأمريكي لا يعكس فقط تراجعًا أخلاقيًا بل يكشف عن أزمة وفجوة داخل النظام الدولي نفسه.


كما لم تعد العلاقات الدولية محكومة بقواعد واضحة بل باتت خاضعة لنهج الفرض بالقوة حيث تُمارس الضغوط السياسية والاقتصادية لإجبار الدول المستقلة على الاصطفاف مع السياسات الأمريكية، بغض النظر عن مصالحها الوطنية. هذا التحول يعكس مرحلة جديدة من النظام الدولي تُعيد إنتاج أنماط استعمارية بواجهات حديثة حيث تتراجع مبادئ السيادة الوطنية واحترام القانون الدولي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لصالح سياسات الإكراه وإعادة تشكيل النظام بما يخدم مصالح القوى الكبرى، حتى ولو كان ذلك على حساب سيادة الدول الأخرى. وقد تصاعد هذا النهج ليشمل الابتزاز العلني والتدخل الممنهج في المؤسسات الدولية، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ووكالة الغوث الدولية (الأونروا)، حيث لم تعد هذه المؤسسات مستقلة بل أصبحت عرضة للضغوط والقيود التي تحدّ من قدرتها على أداء دورها بمهنية وحيادية. كما شهدت المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تحولًا خطيرًا من منصات للحوار والتعاون إلى أدوات للهيمنة، يتم تسخيرها لشرعنة التدخلات السياسية وفرض سياسات اقتصادية تخدم مصالح الدول المهيمنة، عبر قروض مشروطة تستنزف الاقتصادات النامية وتُخضعها لاعتبارات سياسية لا تخدم مصالحها الوطنية.


من هنا يمكن استشراف المستقبل من حيث إن ما نشهده اليوم في الوصول الى أقبح وجوه النظام الدولي نرى فيه ايضاً تصدع في أسس الهيمنة الأمريكية، حيث أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على التستر خلف شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، بعد أن أصبحت ممارساتها أكثر وضوحًا وابتزازها أكثر فجاجة. فهذا النهج الأمريكي العدواني قد يسرّع من نهاية الهيمنة المطلقة لواشنطن، حيث بدأت العديد من القوى الدولية في البحث عن بدائل أكثر توازنًا، سواء من خلال التكتلات الاقتصادية الجديدة أو التحالفات العسكرية الإقليمية. فالعالم لم يعد مستعدًا للقبول بقيادة لا تحترم قواعدها، والتغيرات الجارية اليوم قد تفتح الباب أمام إعادة تشكيل النظام العالمي على أسس أكثر عدالة وتعددية، بعيدًا عن احتكار القرار الدولي من قبل قوة واحدة لا تعترف إلا بمصالحها الخاصة. خاصة مع تنامي القوى المنافسة مثل الصين وروسيا والهند، وبداية الصحوة الاوربية خشية الذوبان في التبعية الامريكية، إلى جانب ظهور تحالفات اقتصادية وعسكرية جديدة، أصبحت الهيمنة الأمريكية مهددة أكثر من أي وقت مضى، مما سيعزز التنافسية الدولية ويحد من احتكار القرار العالمي

شارك

مقالات ذات صلة