سياسة
خديعة السلطوية الأمنية باستهداف العقد الاجتماعي
في المقال السابق، فصلتُ تعريفين أكاديميين عن الدولة العسكرية العاملة بالأحكام العرفية، والدولة البوليسية العاملة بنظام ذي شبكة عميقة من التجسس واستقطاب أنوية الخلايا الاجتماعية والسياسية، كما يحدث حاليًا داخل الأحزاب السياسية المصرية، وسأكتب عن ذلك تفصيلًا في مقالات قادمة، بدايةً باستهداف الصف الأول في العمل العام بالصف الثاني بدعوى الإحلال والتجديد، أو بالحيلة القديمة التي يلجأ إليها كل الأنظمة الشمولية في مرحلة التراجع السلطوي؛ حيلة مهترئة: الدعوة “للاصطفاف خلف القيادة” في وجه عدو حقيقي – في الأغلب – لتجييش الرأي العام للتمويه على فشله وتواطئه إزاء نفس العدو (عيدي أمين مثالًا قديمًا). فتسقط السردية العامة بعد فترةٍ وحشيةٍ مضطربةٍ، تُتَّهَمُ فيها كل من يحاول إفاقة المغيّبين من الغيبوبة والخديعة (فترة مبارك الأخيرة 2008-2011)، فتنهال على رؤوس الإصلاحيين الاتهامات بـ”الخيانة” و”العمالة”.
هذه الدعاوى تُخلق بالأساس لاستهداف مزيد من الإصلاحيين والمعارضين، وتؤجج الرأي العام باستخدام دمى الضجيج المبرمجة (ألعاب الزمبلك) ضد أي تنبيه حقيقي لانزلاق الدولة نحو كارثة حاسمة ونهائية كحال مصر الآن، في مشهد حزين جدًا كان مليئًا بالراقصين بالأمر الميري، ورئيسين ضاحكين بفجاجة، يفصل بينهما وبين مشهد الإبادة المريع في رفح سورٌ رقيقٌ، بين الراقصين وبين خرابٍ وإبادةٍ تأكل الصحفيين وعمال الإغاثة والمدنيين الفلسطينيين أحياءً.
هذا – يا سادة – نيشان العار! الاصطفاف خلف القيادة بل وشكرها لدعوتها، هكذا وبدون تجميل، هو التواطؤ، والتواطؤ فقط، في جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية المستمرة ضد شعب فلسطين، وضد لبنان، واليمن، وسوريا. هذه بالبصمات العشر بارتكابها جريمة الاصطفاف هذه، ومن اصطف منكم خلفها، هي الدولة الأوتوقراطية للفرد على رأس مؤسسة عسكرية توظّف الدولة الأمنية السياسية – هذه هي مصر الآن. وهذه فحوى مقالي الثاني في هذه السلسلة المؤطّرة. أنتم تشاركون في كل خطوة فيها، إن كنتم من يقرؤون هذا المقال المتواضع.
دعاوى الاصطفاف – حالة التعبئة
الاصطفاف خلف القيادة – للوقوف ضد تصفية القضية الفلسطينية وخديعة “الموقف الرافض الثابت”، ودعاوى الحيلولة دون تهجير الشعب الفلسطيني إلى مصر، الذي يُباد منذ السابع من أكتوبر 2023 – قولةُ حقٍّ يُراد بها باطل. محاولة أخيرة لخداع الرأي العام المصري بأنها دعوةٌ للتعقّل والرشاد، بينما رفح الفلسطينية، والستار الرقيق جدًا، والساعات القليلة الحاسمة على باب رفح المصرية، وممر صلاح الدين الذي مسّه التطاول والتبجح الإسرائيلي… مقالي الصحفي هذا هو في صميم البحث عن اشتباك العلاقة بين النظام العسكري السلطوي الأوتوقراطي الحالي، وبين النظام المخابراتي البوليسي العامل بأقصى قوته، وفقدانه السيطرة الآن على مقدراته وقراره تحت ضغط الإمبريالية الأمريكية على السلطة في أسوأ صورها، يعمل بارتجاف البطش اللاواعي لإعمال الوقيعة، وفصل الدوائر السياسية، وفصم العقد الاجتماعي بأوامر عليا.
والجمهور العام – صاحب الأرض رفح وسيناء والسيادة المصرية، وصاحب الدور الإلزامي بفلسطين الجارة والعمق الاستراتيجي لمصر – هو الآن تحت الإفقار، ووابل الإعلام المسيّس المغرض، والتخدير المكثف لعقد كامل من الزمن، والتعتيم التام بل والتواطؤ الدولي على إخراس كل يدٍ للإصلاح، وكل محاولةٍ للإيقاظ، وكل صوت شريف وحر، بل كل صوت يعلو بأي شيء يغاير هذه السلطة، بأي شيء غير السلطوية والقمع، سيلقى مصيرًا أظننا نعرفه جميعًا.
أسبوعان في حياة صحفية تلفزيونية تحت سطوة أمن الدولة
أعلنتُ – أنا نفسي – من موقع يُشرف على ميدان التحرير خبر التنحي. كان اليوم الحادي عشر من فبراير 2011. لحظتها، استضفتُ للحوار كل الأطراف التي اعتقدنا في فريق التحرير في كبريات المؤسسات الصحفية المصرية والعالمية أنهم الأطراف المتشابكة على الأرض في المشهد المرتبك. كانت لحظةً اعتقدناها حاسمة. بعد أيام من صلف الولايات المتحدة، ووزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون، بل ورئيسها باراك أوباما، كانت الآمال في الميدان كل يوم ترتقي وتتحطم عند جدار خطابٍ تلو آخر لمبارك، يأبى فيه التخلي عن حصنه، ومن خلفه المؤسسة العسكرية الحاكمة. ثمانية عشر يومًا من التوحش من جهاز أمن الدولة على المتظاهرين وغير المتظاهرين؛ قبلها انتشرت مقاطع مرعبة لتعذيب مواطنين في أقسام الشرطة وجهاز مباحث أمن الدولة؛ آخرها طبعًا كانت صورتان للمواطن الشاب خالد سعيد – ابني وابنك وابن الجميع. حاول الجهاز الأمني تبرير الحطام في الصورة الثانية، فوقع – كالعادة – في جرائر الغباء السياسي بتبرير الجريمة بجرائم. فسكت. وتأجج الميدان. تأسست صفحة “كلنا خالد سعيد”، لتُتوّج عمل رحلة 6 أبريل، وفضل إضرابات عمال المحلة، وحركة كفاية، والجهد الحقوقي المصري لسنوات خلت، فوقهم مرار المواطنين المحرومين من العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية في المحابس وأقبية الأقسام، لأقل سبب وبلا سبب.
الاصطفاف خلف القيادة (الخونتا) – المجلس العسكري 2011: دراسة حالة
صفحة الرئاسة المصرية، يتوسطها طبعًا شعار الجمهورية الجديدة (تحيا مصر)، أفردت صفحة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي حكم مصر في الفترة ما بين 12 فبراير 2011 حتى 29 يونيو 2012. ترأس المجلس طبعًا المشير حسين طنطاوي. كلنا نتذكر هذا العام. لكن دعونا نحلل مفرداته من حيث الخط البياني الرأسي والأفقي الذي ندرسه تاريخيًا وسياسيًا، لنفهم من حكم فيه مصر عسكريًا وأمنيًا. لأنني أتبع السرد في هذا المقال، فهو – مع عظيم احترامي لمن يصل ليديه – ليس لمعرفة ما حدث، بل في هذه الدراسة، أقدّم من القرائن ما يُوصل حضراتكم لاستذكار قرار اتخذتموه قبل أكثر من عشر سنوات (في أي اتجاه ونحو أي صف) نحو اصطفافٍ ما خلف القيادة، لنفهم سويًا ونُقيّم التجربة دراسة حالة، ثم تصلوا أنتم إلى نتائج تتعلق بسؤالنا الأساسي في هذه السلسلة.
السردية الرأسية (الخط الزمني) لأحداث 2011/2012 دون أي تحليل تجدونها في أكثر من مكان، أعتقد أقصرها مثلًا سردية “المصري اليوم” آنذاك.
السردية الأفقية – وهو ما يخصّنا في هذا المقال:
المحاكمات العسكرية للمدنيين
من المهم جدًا، إذا أردنا اختيار مدخل لذلك العام 2011 وتاليه، أن نتعرف – بقراءة منضبطة – على فترة من أبرز فترات الحكم، على قصرها، في مصر، فُرض فيها المجلس العسكري بالأحكام العرفية، وقدم فيها المدنيين للمحاكمات أمام القضاء العسكري، وتشكلت فيها مجموعات من المحامين المتطوعين، ونشط فيها أكاديميون وباحثون عرّفوا أنفسهم باسم “لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين”.
“وفقًا للقانون العسكري غير العرفي، فالقضاء العسكري (القانون 25 لسنة 1966 المعدل أخيرًا بالقانون رقم 12 لسنة 2014) جهة قضائية مستقلة تتكون من محاكم ونيابات عسكرية وفروع أخرى طبقًا لقوانين وأنظمة القوات المسلحة، ويقوم على شأن القضاء العسكري هيئة تتبع وزارة الدفاع.
هذا يعني أن القضاء العسكري هو جهاز قانوني متخصص يتولى عبء تحقيق العدالة الجنائية في صفوف القوات المسلحة، ويتولى تحقيقه لرسالته الإشراف على الشؤون القانونية والقضائية للمجتمع العسكري، ويتبع الإدارة العامة للقضاء العسكري.”
هل يجوز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري؟
بموجب المادة 204 من الدستور، كاستثناء لمبدأ القاضي الطبيعي، كنهج دستور 2012، الذي نص في المادة 198 منه على جواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة. المادة 6 من القانون، التي تم إلغاؤها عام 2012، كانت تنص على حق رئيس الجمهورية بإحالة قضايا بعينها إلى القضاء العسكري، وهو ما كان يفتح الباب لمحاكمات مدنية أمامه. كما أنه في وقت سابق، كانت تخوّل الفقرة الثانية من المادة 6 رئيس الجمهورية سلطة إحالة أيٍّ من الجرائم التي يُعاقب عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر إلى القضاء العسكري متى أُعلنت حالة الطوارئ، ودُوّنت تحت مسمى “بلطجة” أثناء الاحتجاجات والتظاهرات، وقضية المتورطين في أحداث ماسبيرو. ففي الفترة بين يناير 2011 وأغسطس 2011، تمت محاكمة ما يقارب 12000 شخص أمام القضاء العسكري. في عام 2012، قام مجلس الشعب المصري بتعديل قانون القضاء العسكري، وألغى المادة 6 من القانون. وبذلك، لم يعد يُسمح لرئيس الجمهورية بإحالة القضايا التي يشاء إلى القضاء العسكري. ولكن، ذلك لم يُلغِ محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، بل استمرت هذه المحاكمات وفقًا لنص المادة 198 من دستور 2012 والمادة 204 من دستور 2014، عن طريق اشتراك القوات المسلحة في تأمين المنشآت وبعض المناطق الحيوية، وبالتالي إحالة أي معتدٍ على هذه الأماكن إلى القضاء العسكري.
الثلاثُ الكُبرى – وسحب/انسحاب الأمن العام من المشهد
أدرك جيدًا أنه في هذه اللحظة الحاسمة من عمر هذا الوطن، ستكون الإشارة إلى الثلاث لحظات الكبرى التي كان للحكم العسكري فيها المسؤوليةُ الفريدة، بعد انسحاب أو سحب قوات الأمن من مواقعها. وحتى هذه اللحظة، في أبريل 2025، لم يُفتح تحقيق واحد في تخلي الأمن العام أو أمن الدولة عن مواقعهم، المكلفين بها في القانون والدستور، بالنسبة للأمن العام كقوة أمن مدنية معترف بها، أو كقوة أمن غير قانونية وغير معترف بها؛ أمن الدولة، لحماية النظام المشكَّل من قبل السلطة التنفيذية، في حالة نيابة أمن الدولة، والمُختَصَم بشأنها أمام المحكمة الدستورية العليا.
أقول: المسؤولية الفريدة للمجلس العسكري بعد سحب أو انسحاب الأمن، بقرار شرطي أو مخابراتي، وبالتالي، مسؤولية المجلس وشرطته العسكريتين عن ارتكاب الجرائم بحق المدنيين إبان حكمه؛ في عين الضمير الجمعي المغيّب والمفروم. لكن الثلاث الكبار، لن يمحوهن عشرات السنوات من التغييب، والترهيب، والحبس، والقتل، والترويع، في أسوأ سنوات الحكم في مصر الحديثة، عامي 2011/2012: مذبحة ماسبيرو، أحداث محمد محمود، وأحداث مجلس الوزراء، وما بينها: كشوف العذرية، وواقعة “ست البنات”، وغيرها عشرات التفاصيل الكابوسية، التي يتعين على حضراتكم أنتم أن تبذلوا جهدًا في البحث عنها، ومراجعة ضمائركم إزاءها، قبل الاصطفاف والتباكي على حرق الأحياء في غزة، والارتعاب من التهجير في فلسطين.
الإعلان الدستوري يوليو 2012
بدأت امتيازات المجلس العسكري المفروضة والمخوَّلة منه لنفسه (power arrogation) – دولة الخونتا أو الجونتا – تؤطَّر رسميًا باستخدام أدوات العنف ضد المدنيين، كما سلف ذكره، حتى الإعلان الدستوري الصادر في 2012، والذي منح المجلس صلاحيات برلمان منتخب.
لكن المحكمة الدستورية حكمت بأن قسمًا من القانون الانتخابي البرلماني غير دستوري، فحل المجلس العسكري البرلمان بالقرار 350 في يوم 30 يونيو 2012. ومن ثم، أسس قرار الحل هذا نقل السلطتين التنفيذية والتشريعية إلى يد المجلس العسكري، قبل أيام من تولي محمد مرسي مهام منصبه رئيسًا مدنيًا للبلاد في يوليو 2012.
سردية مهمة تحمل وجهة نظر لا يمكن تحييدها، طرحها الدكتور عمر عاشور، رئيس قسم الدراسات الأمنية بجامعة إكستر، نُشرت على موقع مركز الدراسات البحثية Brookings، بعنوان: “مصر: عودة لجمهورية العسكر“، وقد نُشرت في 21 أغسطس 2013.
“سنسلم السلطة للرئيس كاملة غير منقوصة“
في الثامن عشر من يونيو 2012 – وتحت الضغط الشعبي والنخبوي – أعلن المجلس العسكري أن المجلس: “سيسلم السلطة كاملة غير منقوصة، وأن الجيش سيعود إلى ثكناته بنهاية يونيو حزيران”.
في هذه اللحظة، حدث أمران مهمّان جدًا نؤسس عليهما:
وهو التأسيس الذي بدأ في 2012، وتؤتي الدولة الأوتوقراطية البوليسية ثماره اليوم: العنف الجمعي اللاواعي، خاصة والمنطقة تتداعى، والحروب فيها قائمة؛ ضد أي حركة إصلاحية، بفزّاعة الفوضى والإخوان والخيانة، والتعبئة للاصطفاف خلف القيادة، والتحريض ضد أي تيار سلمي للتغيير والإحلال.
انظروا إلى الفارق في الإعلان الدستوري الذي صدر مباشرة خلف الإعلان عن تسليم السلطة “لرئيس غير منقوصة”، للفارق في الصلاحيات بين “الرئيس” و”المجلس العسكري”.
دعوات المجلس العسكري للحوار مع “شباب الثورة“
بعد تأدية رتبة من المجلس العسكري تحيةً لشهداء الثورة، ودمعت الأعين، واستشعرت القاعدة الشعبية العريضة بداية النهاية للتوتر القائم، منذ اندلاع المظاهرات النخبوية والتحامها بقاعدة جماهيرية غير مسبوقة، فرّت الشرطة أمام الشعب كالنمر الجريح يبحث عن مخبأ.
شُكّل اتحاد من رافعة الشعب لصفوة النخب، ليكون لسان حال الثورة في أي تفاوض على عقد اجتماعي جديد.
دعا المجلس العسكري لحوار.
الرد كان استجابة بل استجابات إيجابية لأكثر من حوار.
حتى يوم بعينه، خرج تصريح بعينه في وقت حساس جدًا.
أعلن “اتحاد شباب الثورة” أن هناك خديعة ما.
كانت أحزاب قد ضمّت على الرائج واطمأنت إلى أن “شباب الثورة” جوادٌ رابح.
لكن بيان الاتحاد أعلن أنه “آسف” للقاء المجلس:
وأشار تامر القاضي، عضو المكتب التنفيذي، إلى أن:
أحزاب وفجوة وثغرة: مدخل شراك المخابرات
أُسقط في يد أحزاب الوفد، والتجمع، والناصري، والإصلاح والتنمية.
واختلف الشباب في موقفهم من هذا الاستخفاف، فذهب بعضهم في 17 مارس 2011 للتظاهر ضد الاستفتاء على التعديلات الدستورية.
وافق على الاستفتاء:
عودة شراك المخابرات
ثغرة صغيرة كهذه – يُفترض أنها صحية وواجبة – كانت الشرك الذي أسقط شباب الثورة في فخٍ لا نهائي من الارتياب والخلاف، وعزل الكتل الحقيقية في الخلايا السياسية، وعودة أقوى أساليب المخابرات للعمل على تفكيك الكيانات الآخذة في التشكل، وعزل العناصر القوية وحبسها – وبعضها لا يزال حبيسًا حتى يومنا هذا – وقليل منها خرج من سجنه بعد أكثر من عشر سنوات، قبل أشهر قليلة.
كانت اللحظة السانحة التي لا تُفوّت، لعودة التحالف بين الدولة العسكرية والدولة الأمنية السياسية، ذات الوقع، لإسقاط أداة فتن كثيرة استمرت أكثر من عقد، وما زالت تحت براثن المخابرات… والكف الثقيل للأسف للأمن السياسي… والإعلام المغرض، البروباغندا التي أطلقت الرصاصة الأولى من الداخل حينما قالت:
“انقسام داخل اتحاد شباب الثورة”.
لا إعفاء للمجتمع المدني
لا يعني ذلك أن هذه الدراسة تعفي المجتمع المدني أو الأحزاب الناشئة أو الحركة الحقوقية من بعض المسؤولية؛ مع الاعتراف بضيق الهامش، والإطباق، والاستهداف العنيف من جانب المؤسسات الأمنية، والتقاضي في “ثلاجات” القضايا المفبركة، والحبس الزور، والتهديد حتى في الخارج للأفراد والمؤسسات، بل واستهداف السلامة الشخصية للقائمين على رصد والدفاع عن القضايا الحقوقية المصرية على اتساع مجالها.
المجتمع المدني والحركة الاحتجاجية
إذا اتبعنا نهج البينة على من ادعى، فإحدى أقسى صور النقد للمجتمع المدني المصري للتفاعل بين الحركة الحقوقية المصرية والحركة الاحتجاجية في مصر، نُشرت على موقع الأبحاث رواق عربي، في 3 سبتمبر 2024، وقدمت الورقة نادين صلاح.
خلصت الدراسة إلى أن هذه العلاقة ما هي إلا تاريخ من الإخفاقات، بناءً على مشاهدات ودلائل وقرائن وحجج، عن:
سؤال الورقة الأساسي كان:
“لماذا فشلت الحركة الحقوقية في مصر في بناء قاعدة جماهيرية عريضة أو في مأسسة وتأطير مطالب الاحتجاجات وتعزيزها في مواجهة السلطة؟”
اعتمدت الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي، بالإضافة إلى مقابلات مع عدد من الحقوقيين المصريين، وخلصت إلى أن الإخفاق يعود إلى:
الحركة الحقوقية: “هوّ الحقوقي ده بيشتغل إيه؟!”
الحال في مصر خلال العقود الفائتة تفاوت بين ميل شديد لنظام عسكري، تحكمه لجنة عسكرية حاكمة، ما بعد 1952 في دولة يوليو، وما بعد فبراير 2011 في الثانية، وبين تمازج يتسق لحظيًا بين الحكم الأوتوقراطي المتحوّر تدريجيًا باتجاه السلطوي الفردي، من أصول عسكرية، بمباركة المؤسسة العسكرية المصرية.
هي الحاكم الحقيقي أو المنتفع الأساسي بأذرع الدولة العميقة، وجهازها الأمني الرهيب فوق وتحت الأرض، في شبكات معقدة، في خارطة مصالح متضافرة مع رأس المال، لم تتسق أبدًا دون تنافس بين المؤسسة العسكرية والجهاز الأمني المدني، لا سيما الكيان السياسي منه (المخابرات العامة – أمن الدولة – الأمن الوطني).
تتنافس على السيطرة والسلطة، ولم ينهل من هذه المعركة إلا المواطن والمال العام.
أما عن المجالين السياسي والعمل العام، فحكايتهما معقدة ومتشابكة أيضًا، قد نعرض لها في سياق الدراسة في هذا المقال، والتالي المُتمم لهذه السلسلة، وسنفرد لهما مساحات في مقالات مخصصة لذلك.
أما عن القطاعات المالية والاقتصادية العملاقة، المشتبكة بقوة مع أجهزة الدولة بجذورها العميقة؛ فقد عرضنا لبعضها في جانب من سلسلة “المؤسسة العسكرية المصرية بين العقيدة والربح”، وكذلك في سلسلة “الصناديق السيادية” بين المقال الأول والثاني، وسنفرد لها أيضًا دراسات مفصلة فيما هو قادم إن عشنا.
إحدى أكثر الأوراق البحثية وجاهة في رصد الحركة الحقوقية والسياسة التنازعية في مصر في الفترة ما بين عامي 2004–2014، كانت للباحث والأكاديمي المصري د. عمرو عدلي، ونُشرت على موقع مبادرة الإصلاح العربي في 16 يناير 2018.
له من الأوراق البحثية في الاقتصاد السياسي الكثير مما تعلّمت أو اجتهدت في التعلم منه، رغم تطابق عمرنا تقريبًا.
أزكّي هذه الورقة المنضبطة بحثيًا لكل من يسأل مستهجنًا: “هوّ الحقوقي ده بيشتغل إيه؟!”
في المقال القادم المتمم لهذه السلسلة أكتب عن العشرية الأخيرة