آراء
مقدمة:
عرفت أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحولات عميقة، طالت البنية الاجتماعية والسياسية والدينية، وانعكست آثارها على وضع اليهود داخل المجتمعات الأوروبية، الذين وجدوا أنفسهم إزاء معاداة متصاعدة، وتهميش متواصل. في هذا السياق، وُلدت الحركة الصهيونية باعتبارها استجابة لهذه الأوضاع، لكنها لم تكن مجرد حركة دفاعية، بل كانت مشروعًا قوميًا استعمارياً يسعى إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو مشروع اتخذ منذ بداياته طابعًا سياسيًا ودينيًا عنصريًا، وظّف الأدوات الحديثة في التنظيم والدبلوماسية والاستعمار الاستيطاني.
كما وجدت الصهيونية دعمًا مسيحيًا بروتستانتيًا، لا سيما في أوساط التيارات الإنجيلية التي اعتبرت عودة اليهود إلى فلسطين جزءًا من النبوءات التوراتية التي تسبق المجيء الثاني للمسيح.
في خضم هذه الأحداث، برز الصحفي اليهودي النمساوي تيودور هرتزل، الذي بلور المشروع الصهيوني بصيغته الحديثة، داعيًا إلى إقامة دولة يهودية مستقلة، وهو ما عبّر عنه بوضوح في كتابه الشهير “الدولة اليهودية”. وقد رأى هرتزل أن الحل الوحيد للمسألة اليهودية هو إيجاد وطن قومي في فلسطين، فدعا إلى تنظيم المؤتمرات الصهيونية وتوحيد الجهود لتحقيق هذا الهدف.
وقد خرج المؤتمر بعدة قرارات أهمها:
ولعل ما كشف النوايا الحقيقية للحركة، هو تصريح هرتزل لاحقًا حين قال: “اكتبوا وطن قومي، وسيفهم الجميع أنها دولة”، في إشارة إلى استغلال الغموض اللفظي لتحقيق أهداف سياسية بعيدة المدى.
توجه بعد ذلك نحو الدولة العثمانية، حيث سعى لإقناع السلطان عبد الحميد الثاني بالسماح بهجرة اليهود إلى فلسطين مقابل دعم مالي ضخم، غير أن السلطان رفض بشدة، قائلًا: “فليحتفظ اليهود بملايينهم، فإذا مزقت إمبراطوريتي يومًا، يمكنهم حينها أن يحصلوا على فلسطين دون مقابل، أما وأنا حي، فلا أقبل بتقطيع أوصالها”.
كما حاول هرتزل كسب دعم روسيا القيصرية، ونجح جزئيًا في ذلك، إذ صرّح وزير الداخلية الروسي بأن الحكومة الروسية ستدعم المشروع طالما أنه ينظم هجرة اليهود الروس.
أما فرنسا، فقد رفضت التعاون مع الصهاينة، معتبرة أن المشروع الصهيوني يخدم المصالح الألمانية. كما عارض اليهود الفرنسيون أنفسهم فكرة الصهيونية، متمسكين بالاندماج في مجتمعهم.
التقى هرتزل بوزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرلين، واقترح عليه مشروع توطين اليهود في جزيرة قبرص أو شبه جزيرة سيناء، لكن المقترح لم يلقَ قبولًا. لاحقًا، اقترحت بريطانيا توطين اليهود في أوغندا (1903)، وهو العرض الذي تسبب في انقسام داخل الحركة الصهيونية بين مؤيدين (السياسيين) ومعارضين (العمليين)، وتم الحسم لاحقًا لصالح التركيز فقط على فلسطين خلال المؤتمر السابع.
ومن أبرز هذه المؤسسات:
وقد شكلت هذه المؤسسات نواة الدولة المستقبلية، وأسهمت بشكل حاسم في تهويد الأرض وتمكين المشروع الصهيوني، الذي مهّد له هرتزل الطريق بفكره ودبلوماسيته.
خاتمة:
لم تكن الصهيونية مجرّد حركة دينية أو تيار فكري، بل كانت مشروعًا استعماريًا مدروسًا استثمر في كل الوسائل الممكنة لتحقيق هدفه: إقامة دولة يهودية في فلسطين. بدأ الحلم بفكرة، ثم تحوّل إلى تنظيم، فمؤسسات، فواقع سياسي تحالفت فيه المصالح الصهيونية مع الأطماع الاستعمارية الغربية. وقد كانت المرحلة التأسيسية بقيادة هرتزل هي اللبنة الأولى في هذا البناء، الذي سيستمر حتى وعد بلفور ثم قيام دولة الاحتلال عام 1948.