آراء

نشأة الحركة الصهيونية ومساعيها نحو إقامة وطن قومي لليهود!

أبريل 9, 2025

نشأة الحركة الصهيونية ومساعيها نحو إقامة وطن قومي لليهود!

مقدمة

عرفت أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحولات عميقة، طالت البنية الاجتماعية والسياسية والدينية، وانعكست آثارها على وضع اليهود داخل المجتمعات الأوروبية، الذين وجدوا أنفسهم إزاء معاداة متصاعدة، وتهميش متواصل. في هذا السياق، وُلدت الحركة الصهيونية باعتبارها استجابة لهذه الأوضاع، لكنها لم تكن مجرد حركة دفاعية، بل كانت مشروعًا قوميًا استعمارياً يسعى إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو مشروع اتخذ منذ بداياته طابعًا سياسيًا ودينيًا عنصريًا، وظّف الأدوات الحديثة في التنظيم والدبلوماسية والاستعمار الاستيطاني.

 

  1. الجذور الفكرية والدينية للصهيونية: ظهرت تفسيرات متعددة لمصطلح “الصهيونية”؛ فهناك من يربطها بجبل صهيون في القدس، بينما يعيدها البعض إلى جذور لغوية في العربية تُشير إلى الحفظ والصون. لكن الثابت أن الصهيونية نشأت كحركة يهودية تهدف إلى لمّ شتات اليهود حول العالم، وجمعهم في وطن قومي بفلسطين. وقد استندت إلى روايات دينية توراتية، وجعلت من مملكة داوود وسليمان القديمة مرجعًا تاريخيًا لشرعنة مشروعها.

كما وجدت الصهيونية دعمًا مسيحيًا بروتستانتيًا، لا سيما في أوساط التيارات الإنجيلية التي اعتبرت عودة اليهود إلى فلسطين جزءًا من النبوءات التوراتية التي تسبق المجيء الثاني للمسيح.

 

  1. الصهيونية الحديثة وتطورها السياسي: في أواخر القرن التاسع عشر، تبلورت الصهيونية كحركة سياسية معادية للاندماج، خصوصًا بعد اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني سنة 1881م، حيث اتُهم اليهود بالضلوع فيه، مما أدى إلى تصاعد أعمال العنف ضدهم، وظهور موجات من الهجرة اليهودية.

في خضم هذه الأحداث، برز الصحفي اليهودي النمساوي تيودور هرتزل، الذي بلور المشروع الصهيوني بصيغته الحديثة، داعيًا إلى إقامة دولة يهودية مستقلة، وهو ما عبّر عنه بوضوح في كتابه الشهير “الدولة اليهودية”. وقد رأى هرتزل أن الحل الوحيد للمسألة اليهودية هو إيجاد وطن قومي في فلسطين، فدعا إلى تنظيم المؤتمرات الصهيونية وتوحيد الجهود لتحقيق هذا الهدف.

 

  1. مؤتمر بازل 1897 وانطلاقة التنظيم الصهيوني: يُعد مؤتمر بازل أول مؤتمر صهيوني عالمي، عقد في مدينة بال السويسرية بتاريخ 29 أغسطس 1897، بحضور أكثر من 200 مندوب من مختلف دول أوروبا والولايات المتحدة وحتى فلسطين.

وقد خرج المؤتمر بعدة قرارات أهمها:

  • تشجيع الاستيطان اليهودي المنظم في فلسطين.
  • توحيد المؤسسات والهيئات الصهيونية العالمية.
  • تنمية الوعي القومي اليهودي.
  • السعي لدى الحكومات للحصول على اعتراف سياسي وقانوني بالمشروع الصهيوني.

ولعل ما كشف النوايا الحقيقية للحركة، هو تصريح هرتزل لاحقًا حين قال: “اكتبوا وطن قومي، وسيفهم الجميع أنها دولة”، في إشارة إلى استغلال الغموض اللفظي لتحقيق أهداف سياسية بعيدة المدى.

 

  1. المساعي الدبلوماسية لهرتزل: بعد مؤتمر بازل، أدرك هرتزل أن الطريق إلى إقامة دولة يهودية يمر عبر دهاليز السياسة الدولية، فبدأ بمحاولة استقطاب دعم القوى العظمى آنذاك. بدأ بألمانيا، فالتقى القيصر فيلهلم الثاني عام 1898، مقترحًا إنشاء شركة يهودية تحت رعاية ألمانية بفلسطين، لكن الاقتراح قوبل بالرفض.

توجه بعد ذلك نحو الدولة العثمانية، حيث سعى لإقناع السلطان عبد الحميد الثاني بالسماح بهجرة اليهود إلى فلسطين مقابل دعم مالي ضخم، غير أن السلطان رفض بشدة، قائلًا: “فليحتفظ اليهود بملايينهم، فإذا مزقت إمبراطوريتي يومًا، يمكنهم حينها أن يحصلوا على فلسطين دون مقابل، أما وأنا حي، فلا أقبل بتقطيع أوصالها”.

كما حاول هرتزل كسب دعم روسيا القيصرية، ونجح جزئيًا في ذلك، إذ صرّح وزير الداخلية الروسي بأن الحكومة الروسية ستدعم المشروع طالما أنه ينظم هجرة اليهود الروس.

أما فرنسا، فقد رفضت التعاون مع الصهاينة، معتبرة أن المشروع الصهيوني يخدم المصالح الألمانية. كما عارض اليهود الفرنسيون أنفسهم فكرة الصهيونية، متمسكين بالاندماج في مجتمعهم.

 

  1. الموقف البريطاني وانعطافة المشروع: على عكس المواقف السلبية السابقة، أبدت بريطانيا اهتمامًا متزايدًا بالحركة الصهيونية، خاصة لأسباب استراتيجية؛ إذ رأت في إقامة كيان يهودي وسيلة لمنع وحدة عربية محتملة، وكبح التوسع الفرنسي أو الألماني في المشرق.

التقى هرتزل بوزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرلين، واقترح عليه مشروع توطين اليهود في جزيرة قبرص أو شبه جزيرة سيناء، لكن المقترح لم يلقَ قبولًا. لاحقًا، اقترحت بريطانيا توطين اليهود في أوغندا (1903)، وهو العرض الذي تسبب في انقسام داخل الحركة الصهيونية بين مؤيدين (السياسيين) ومعارضين (العمليين)، وتم الحسم لاحقًا لصالح التركيز فقط على فلسطين خلال المؤتمر السابع.

 

  1. ميكانيزمات بناء الدولة الصهيونية ومؤسساتها الاستيطانية: عملت المنظمة الصهيونية العالمية على وضع آليات دقيقة ومنظمة لعملية الاستيطان في فلسطين. وقد تمثلت هذه الآليات في إنشاء شبكة مؤسساتية متكاملة هدفها الأساسي هو الاستيلاء التدريجي على الأراضي الفلسطينية، وتهيئة البنية التحتية اللازمة لإقامة دولة يهودية.

ومن أبرز هذه المؤسسات:

  • الوكالة اليهودية: المسؤولة عن إدارة شؤون يهود فلسطين.
  • بنك أنجلو-فلسطين (1903): لتمويل المشاريع الاستيطانية.
  • الصندوق القومي اليهودي (1901): لشراء الأراضي.
  • شركة تطوير الأراضي (1909).
  • لجنة الاستعمار (1898).
  • الجمعية اليهودية العالمية.
  • الصندوق الفلسطيني التأسيسي (1920): لشراء الأراضي بشروط لصالح اليهود فقط.

وقد شكلت هذه المؤسسات نواة الدولة المستقبلية، وأسهمت بشكل حاسم في تهويد الأرض وتمكين المشروع الصهيوني، الذي مهّد له هرتزل الطريق بفكره ودبلوماسيته.

خاتمة:
لم تكن الصهيونية مجرّد حركة دينية أو تيار فكري، بل كانت مشروعًا استعماريًا مدروسًا استثمر في كل الوسائل الممكنة لتحقيق هدفه: إقامة دولة يهودية في فلسطين. بدأ الحلم بفكرة، ثم تحوّل إلى تنظيم، فمؤسسات، فواقع سياسي تحالفت فيه المصالح الصهيونية مع الأطماع الاستعمارية الغربية. وقد كانت المرحلة التأسيسية بقيادة هرتزل هي اللبنة الأولى في هذا البناء، الذي سيستمر حتى وعد بلفور ثم قيام دولة الاحتلال عام 1948.

شارك

مقالات ذات صلة