آراء
ظننتُ أنّه السجن ما أشعرني بهذا الثقل، وليس كلّ الظنّ إثم، لم نكن جرّبنا الغرق في وحل العجز وقصر الأيدي والألسنة كما الآن، لم تهيّئنا أسوأ الكوابيس لما نعيشه منذ الثامن من أكتوبر٢٠٢٣، كأنّه اليوم كلّ يومٍ، كأنها الإبادة منذ الأزل، أقرأ هذه الكلمات الآن ولا أتأكّد لو كتبت لتوّها أم صدق المكتوب على ورقةِ تهريبها الصغيرة من زنزانتي في٢٠٢١م، لم يكن ثمّة إبادة، ولا خمسين ألف شهيد، ولا أضعافهم مفقودون وجرحى، لم يكن مضى كل ما مضى وما زال قائمًا دون أن يحترق العالم أو ينتهي كما يستحقّ، لكنّها الكلماتُ المستدعاة من تاريخٍ قريبٍ غمره الرعب القائم، حيلة العاجزِ حتى عن الصراخ، كان سجينًا في زنزانة، ثم في وطن، ثم في عالم كلّ من فيه متواطؤ أو شريك أو متخاذل، إلا رافع سلاحه نصرةً لفلسطين وأهلها… كتبت هذه الرسالة في معتقل طرة، أثناء عملية سيف القدس وعدوان العدو على قطاع غزّة في ٢٠٢١ وكانت أخبار الصحب هناك وقتئذٍ مقطوعة، أما الآن فقد ارتقى الرفاق والزملاء والأصدقاءُ والأحبّةُ كلّهم شهداء إلا ثلاثة يتعلّقُ ما بقيَ من فُتات القلب بهم :-
…..
العيدُ ثقيلٌ هنَا.. مرهقٌ..
يجترّ الذكرياتَ، مشاهدَ الصحبةِ، فسحةَ البراحِ، وفائتَ القدرةِ؛ فتتزاحمُ علينا والبابُ مغلقٌ لأيامٍ، في زنزانةٍ ضيّقةٍ/قابضة، تستفردُ بنا؛ فتنهكُنا، عادةً، ما بالكِ وأصحابي تحتَ القصفِ يقضونَ عيدهم؟
أتصوّرهم -واحدًا واحدًا: مصابينَ، فزعينَ، وشهداءَ..
طوال اليومِ أراهم، صحوًا وشبهَ منامٍ [أقوم هلعًا وسطَ تهدّمٍ، قصفٍ، ساريناتُ إسعافٍ، وأشلاءَ متناثرة ..]
لي هناكَ أهلٌ، كأهلي، وزيادة..تشاركتُ معهم:
لذّة ُالوقوفِ على قدمِ الحقّ
سكرةُ الذهابِ، المتعجّلِ، إلى الموتِ
غريزةُ الإختباءِ ممّا لا اختباءَ منه.
غنّينا سويّاً، كلّ ليلةٍ:”حمّلوني هيه يا رفاقي، وارفعوني ع الكتوف.. زفّوني زفّة عرس يا رفاقي، زغردولي بكلاشينكوف…”هامسينَ في طريقنا للثغورِ..
تشاركتُ معهم مالم أتشاركهُ مع غيرهِم.. طيلةَ عمري..
فـ كيفَ يمرّ الوقتُ، ترى، وأنا أعرفُ يقينًا أنهم ليسوا بخير؟
كيفَ وأنا غيرُ قادرٍ على العودةِ لـ هناكَ؛
لأحملَ سلاحًا، حجرًا، أو حتى جرّةَ ماءٍ لهم؟
عدتُ-وقتَ عدتُ، قبلَ اثنتي عشرةَ سنةٍ؛ لأكملَ مسيرَ الـ هنا أولاً..
وعَدتُهُم: سآتيكم، لا وحدي في القادمِ.. سنكونُ جيشَ تحريرٍ.. مِصرُ، فـ أنتم!
كيفَ بي الآنَ، وقد أُحبَطَ صبحُ مصرَ، وجثمَ أغشمُ الليلِ وأغدرُه على صدرِها؟ فتكالبَ العدوّ، والخونةُ.. وكلابُ السككِ، ممّن لم يجرؤوا مِن قبل؟
ها هيَ تُقصفُ.. وهاهم يخونونَ، صمتًا وتطبيعًا، وإدانةً للمقاومةِ أو حصارًا لها..
وأنا هُنا في زنزانتي، لا محرومٌ من مشاركتهِم النضالَ والمصيرَ فقط..
إنما محرومٌ، حتى، من معرفةِ ما الذي حدثَ؟
هل نجا الأهلُ والرفاقُ؟
كيفَ ولا نجاةَ -أصلاً- من الحربِ؟
عندما تتوقّفُ الطائراتُ.. المدفعيةُ. والزوارقُ عن حصادِ الأرواحِ والأبنيةِ..
لا تتوقفُ زلزلتُها في النفوسِ!
لا يستعيدُ الميّتُ حياتَه، ولا المصابُ أشلاءَ جسدِهِ..
ولا ينفع الأرواحُ المحطمةُ فيها جهودُ إعادةِ الإعمارِ ووفود تثبيت الهدنة.
….
لكنّي، ككلّ وقتٍ..
لا على العربِ أراهنُ؛ طابورُ خياناتِهم طالَ وامتدّ، خيانةً رخيصةً مبتذلة … ما أحقَرَهم!
لا على العالمِ.. ذلكَ المتواطئُ -الشريكُ- القاتلُ..
ولا على الضميرِ الإنسانيّ ؛ فقدتِ البشريةُ ضميرها وشرفَها منذُ زمن.
أراهِنُ فقط على بسالةِ أهلِ فلسطين، وصمودِ أهلِ فلسطين، وبأسِ أهلِ فلسطين
أراهنُ على المقاومةِ وسلاحِ المقاومةِ..
وحدها ستحدّدُ المسارَ..
وحدها ستنصرُ القضية..
ووحدها ستنتصر!