أدب
جمعتُ عدَّة كُتب تدور حول شخصيات أدبية وحياتهم الشخصية. نبَشَ هؤلاء المؤلفون في الحياة الخاصة للأدباء. جلستُ أفكِّر في النقاشات التي قدَّمتْها تلك الكتب. عناوين الكتب هي: «المثقفون»، تأليف بول جونسون، وترجمة طلعت الشايب. و«جنون الفلاسفة»، تأليف نايجل رودجرز وميل ثومبتون. ومؤخرًا حصلت على كتاب «مشردون.. تاريخ فاضح لكُتّاب متمرّدين»، تأليف أندرو شافر، وترجمة منير عليمي. هذا بجانب كُتب عربية مثل كتاب «النميمة.. نبلاء وأوباش ومساكين»، تأليف سليمان فياض، وهو كتاب جميل يقدّم رؤية لحياة شِلَّة أدباء الستينيات بصراحة، ويضعك في الجوِّ الأدبي، فيحكي عن الشخصيات بصراحة، عن النبلاء والأوباش، عن دماثة بعض الأدباء مثل يحيى حقّي، وغرور البعض مثل يوسف إدريس، وتحوُّلات سيد قطب. وفي الكتاب إقرار مِن فياض بأخطاء وقع فيها، وفي الكتاب أيضًا تصوير لحياة الأدباء وقصور نظرتهم أحيانًا واختلاطها بالمنفعة الشخصية. والأهمُّ هو حكايات فياض عن مطبخ الكتابة.
كذلك وقعَتْ يدي على كتاب «حضرات السادة المحترمين» لناصر الدين النشاشيبي. يتضمن الكتاب سِيَرًا لمثالب الصحفيين مثل مصطفى أمين وموسى صبري وسعيد فريحة وسليم اللوزي. وكذلك قرأت مذكرات الناشر محمد سعيد محمدية «حياتي بين الشعر والشعراء»، التي تمنيت أن يكتب كل ناشر ذكرياته كما كتبها محمدية. أمس، أردت الرجوع إلى معلومة ذكرها أحمد سعيد محمدية صاحب «دار العودة»، فعُدت إلى مذكِّراته التي تحدَّث فيها عن محمود درويش وقدَّم فيها صورة كاشفة بلا خجل عن الشاعر وحياته. والكتاب مليء بهذه النميمة عن مجتمع الأدباء الذي عاش بينهم محمدية، مثل كلامه عن الحياة الشخصية للشاعرة لميعة عباس في العراق، وغيرها. وأهمُّ ما فيه هو حديثه عن النشر بأريحية، فقد نشر دواوين درويش دون أن يستأذنه، وقبل أن يلتقيه في موسكو، وقال عن درويش إنه كان يسامحه.
أيضًا كتاب «هؤلاء عرفتُهم» لعبّاس خضر، مفيد لمن أراد الوقوف على تفاصيل 14 شخصية أدبية بعين كاتب عاصرهم وعاش معهم، ففي هذا الكتاب صراحة ووصف للمجتمع الأدبي المصري، ومِن أجمل الفصول حديثه عن روح طاهر أبو فاشا المرحة، وسماحة شخصية علي أحمد باكثير، وحكايات تصوِّر الأدباء بما فيهم من طباع إنسانية وليست أوهامًا رومانسية عنهم.
المشترك بين جميع هذه الكتب هو اهتمامها بالصراحة في تناول الشخصيات، وكشف العيوب، والتركيز على المثالب، والتقليل من البراعة الفكرية والإسهامات الأدبية، والنظر في ثغرات الشخصيات والعيوب الأخلاقية في سلوكهم.
«ذكريات الأدب والحب» لسهيل إدريس، سيرة عن طفولة وشباب سهيل، كشف فيها عن عيوب العائلة ومثالب الوالد، وأرادها على نمط اعترافات الغربيين في الجرأة وصراحة الحكايات، وفيها سنواته الأولى في الصحافة وعلاقاته الغرامية. تمنَّيْتُ أن أقرأ عن حياة جيلِه لكن يبدو أنه لم يكملها، ولم تُعِد «دار الآداب» نشرها لصراحتها.
جنون الفلاسفة
في كتاب «جنون الفلاسفة» تعمَّق مؤلفاه في كتابات مجموعة من الفلاسفة، وبحثا في السيرة الخاصة بكل منهما، وبما توثَّق مِن حياتهما الشخصية، بُغية الوصول إلى هدف واحد، وهو الإجابة عن هذا السؤال: ما نسبة التطابق بين أفكار الفيلسوف المثبتة في أعماله، وممارسته لحياته الشخصية؟ يقول المؤلفان: «إننا لسنا بصدد تقييم أخلاقيّ للتصرفات، وجُلّ اهتمامنا هو عرض حماقات الحكماء، كي لا تُقدَّس ذكراهم بشكل محرج».
أعجبتني الفكرة التي قامت عليها الكتاب، البحث في حياة الشخص، خصوصًا أن لديَّ ولعًا بالسِّيَر الذاتية والمذكرات. وقد أرَّقني هذا السؤال: كيف يجمع الأديب والفنان والفيلسوف بين العبقرية في الكتابة أو الأداء الموسيقي وموهبته العقلية الفذة وبين تصرفاته التي تحتوي على دناءة أو سخف أو إدمان أو عدم سيطرة على الذات؟ وهذا يظهر للقراء كأنه تناقض بين دلالات معنى الفلسفة باعتبارها حبًّا للحكمة، وواقع طيش الفيلسوف ومجون الأديب.
سؤال كبير لأنه يستدعي أسئلة أكثر من ذلك، حول ما يؤمن به الشخص وحياته الواقعية، والتناقض في الحديث عن الذات والكتابة عنها، ورؤية الشخص لنفسه وآراء معاصريه فيه. هو سؤال يعيش معه كل قارئ في دفاتر المذكرات، ولا أظنني اهتديت إلى إجابات شافية بقدر ما حصلت على تجارب وقصص للفهم والتأمل.
كتاب «جنون الفلاسفة» يمدّنا بمعلومات وحكايات عن شطحات الفلاسفة، ويوضح لنا الضعف الذي اعترى مارتن هيدجر ليقبل بالتعاون مع النازيين، حينما ترك صومعته في الغابة السوداء عام 1933 ليُدير الجامعة، وعلى مدار ثلاثين عامًا بعد سقوط حكم الرايخ الثالث لم يقدِّم اعتذارًا أو تفسيرًا حول هذه الفترة. يشير الكتاب إلى مواقف جون بول سارتر الزعيم الوجودي الذي دافع عن الشيوعية السوفييتية رغم ظهور أخبار عن المعتقلات. قصة سارتر وتناقضاته مهمة، لنتذكّر زمنًا كان الولع به وبمواقفه يلغي أي نقد. نتذكر زيارة سارتر للقاهرة، فقد قدمت عايدة الشريف في سيرتها «شاهدة ربع قرن» وصفًا للزيارة وردود أفعال المثقفين المصريين المبهورين. حالة من العمى النقدي، لدرجة أن توفيق الحكيم أنكر أن سيمون دو بوفوار هي عشيقة سارتر، واعتبر هذه المعلومة تشويهًا لسيرة الفيلسوف العظيم!
ليست السياسة هي الملف الوحيد الذي تناقضت فيه مواقف الفلاسفة، بل حكايات عن مواقف برتراند راسل الذي كتب كثيرًا حول الزواج وتربية الأولاد، وكانت تجربته الحياتية مليئة بالتعثر والفشل، لدرجة اشتهاره بلقب «الخليع الفلسفي» بسبب نزواته المتعددة. ويأتي في الكتاب ذِكر لمواقفه السياسية، فعلى الرغم من دعوته للسلم في الحرب العالمية الأولى، فإنه كان محرِّضًا على حرب نووية استباقية ضد الاتحاد السوفييتي في الأربعينيات، في الوقت الذي لم يكُن الاتحاد السوفييتي يملك فيه قنابل نووية.
يستمرّ كتاب «جنون الفلاسفة» في تحطيم أصنام الفلاسفة، وتدمير العصمة الفكرية، وإظهار الشطط الذي حدث في فكر فردريك نيتشه، وكأنّ الكتاب يقدّم تحذيرًا للغافلين الذين يتعاملون مع أفكار نيتشه على هيئة اقتباسات، للنظر في تجربة حياته بشكل أعمق.
حشَد الكتاب سيرة ثمانية فلاسفة، والتمَس جوانب الضعف والسوء من مواقف أو تصريحات أو ممارسات، كي يوضّح الفكرة العامة التي تفيد بأن حياة المنطق لا تؤدي بالضرورة إلى حياة منطقية. لم تكُن عصابة الفلسفة منيعة وعاصمة لهم من الوقوع في الأخطاء البشرية. ويؤكد الكتاب أنَّ كشفه للحماقات في حياتهم لا يلغي المساهمات الفكرية الإنسانية الهائلة التي قدَّموها، لذلك بدا لي هذا السرد لحياة ثمانية فلاسفة والبحث عن عيوبهم وتناقضاتهم رحلة ممتعة، خصوصًا مع وجود حالة تقدير لِمُنجَزِهم الفكري والعقلي وعدم إنكار دورهم في تاريخ الفكر.
مِن المهمّ قراءة مذكرات الزوجات والعشيقات لنرى وجوهًا مختلفة للفلاسفة والأدباء. مشكلتي مع كتاب بول جونسون هو إنكاره الإسهامات الأدبية والفكرية التي قدمها المثقفون، وأنه يُحاكِمهم. يوجد كتاب يشبه كتاب «جنون الفلاسفة»، وهو كتاب «المثقفون» لبول جونسون.
بول جونسون والسيرة الحقودة
«المثقفون» واحد من أكثر الكتب التي تهجم على رموز ثقافية وفكرية مثل ماركس وجان جاك روسو وهمنجواي وغيرهم. يلخص الكاتب عبد الله الوهيبي عرضه لكتاب بول جونسون بقوله: «كاتب حقود، هذا ما شعرت به بعد قراءتي للثلث الأول، فقد أفرغ المؤلف كل إمكانياته البحثية في كشف خفايا الانحلال الأخلاقي والتناقض الفكري والإباحية السلوكية عند كل هؤلاء. المثقفون في كتابه مجرد كلاب ضالة، وقردة فاسدة. مدمنون لأحضان العاهرات، شواذ، فاسدون، نصابون، مهووسون بالشهرة والمجد والمال. ببساطة، هُم حفنة من الشياطين اللعينة. هذه خلاصة الـ350 صفحة.
لا يمكن قبول هذه السردية المنحازة والحقودة والظالمة، فرغم كل الحقائق التي أوردها المؤلف فإنه:
أولًا: تعمَّد اختيار نماذج لمثقفين فعلًا منحطّين للغاية أخلاقيًّا في أغلب النماذج.
ثانيًا: قام بمحورة ومركزة السوء والانحلال في شخصياتهم، بحيث إنه صبغ سيرهم بصبغة غير إنسانية وشديدة القتامة.
ثالثًا: ارتكب فظاعات تأويلية كثيفة لأجل تفسير كل سلوكياتهم بأحط التفسيرات الممكنة، ولم يدَع حكاية أو اقتباسًا يمكن توظيفه في سرديته السوداء إلا اعتنى به.
رابعًا: كان شحيح العرض للجوانب الإيجابية، بخيلًا بالثناء، ووافر الهجاء على كل شيء تقريبًا.
خامسًا: كانت نزعته اليمينية المحافظة وانتماؤه الليبرالي الرأسمالي المكشوف حاسمَين في كثير من نقده، لم يكُن موضوعيًّا بحال، كان خطابه بائسًا بصورة مزعجة. لست متعاطفًا مع أغلبية الأسماء التي ذكرها أبدًا، ولكن هذا لا يعني التجني والظلم.
هذه النوع من الهجاء النقدي يفشل في فهم تركيبية الإنسان، واختلاط فساده بصلاحه، وأنه مهما بلغ الإنسان فلا بد من خير يفعله، ولا بد من نزعة فضيلة تحجزه».
انتهى الاقتباس المهم مِن عبد الله الوهيبي.
عمومًا، هذه الكتب الفضائحية تتحدث عن مثالب المؤلفين وجنون الفلاسفة والتاريخ الفاضح لبعض الكتّاب، وبعضها يحتوي على نميمة عن الوسط الثقافي تكسر الصورة البريئة لحياة هؤلاء الأدباء، وفيها تحيُّز وهجوم وأحيانًا ظلم لإبداع بعضهم، مثلما فعل جونسون وحاكَم المؤلفين أخلاقيًّا. لكن في النهاية هذا لون من الكتابة يُذكِّرنا بأنَّ الأدباء بَشَرٌ، يجب ألَّا نُقدِّسَهم.