مدونات
للكاتب: عبد الرحمن حسنيوي
حين يُذكر اسم القدس، يهتز وجدان المغاربة كما لو أن المدينة المقدسة تسكنهم، لا يسكنونها…، فالعلاقة بين المغرب وفلسطين ليست علاقة تعاطف لحظي، ولا طارئة تولد مع المآسي وتذبل بانقضاء الأخبار، بل هي علاقة راسخة تشكّلت عبر قرون طويلة من الحضور والمشاركة والرباط، علاقة نسجتها الدماء والأوقاف والمدارس والمساجد، ثم سقاها وجدان شعبي لم يبدّل ولا خان.
في زمن الحروب الصليبية، لم يكن المغرب بلداً هامشياً في معركة تحرير القدس، بل كان منبع مدد بشري وروحي حاسم، حين دعا صلاح الدين الأيوبي إلى الجهاد لتحرير القدس، جاءه المغاربة برّاً وبحراً، مقاتلين في معركة حطين، ومجاهدين على أبواب الأقصى، ودُفن شهداؤهم في ثرى فلسطين، حتى قال عنهم القائد المنتصر: “يثبتون في البر، ويبطشون في البحر، لا يخافون في الدفاع عن المسلمين ومقدساتهم”.
ولأن صلاح الدين أدرك أن المرابطة لا تكون إلا لمن يملك جذوراً وعزيمة، أسكن المغاربة في القدس، وخصّهم بحي كامل بجوار المسجد الأقصى، سُمّي لاحقاً حارة المغاربة، هذا الحي لم يكن مجرد مكان للسكن، بل أصبح مركز إشعاع فقهي وثقافي، ازدهر في العصرين المملوكي والعثماني، حيث تبوأ المغاربة مكانة الأئمة والخطباء والقضاة على المذهب المالكي، وأسّسوا مدارس، وأوقفوا الأموال والقرى لخدمة الزوّار والمجاهدين، وكان أبرزها وقف عين كارم الذي ظلّ شاهداً على وقفية مغربية أصيلة لم تهزّها الأعاصير.
وعندما احتل الكيان الصهيوني القدس في عام 1967، لم ينسَ من أين جاء الثبات، فكان أول ما فعله هو هدم حارة المغاربة بالكامل، وطرد سكانها، ومحو ثمانية قرون من الوجود المغربي في القدس، وكأنه يظن أن محو الحجارة يمكن أن يمحو الذاكرة.
لكن ما لا يعرفه المحتل هو أن ذاكرة المغرب ليست من ورق، ولا تذبل بالهدم، لأن الأصل متين، فالمغرب الرسمي، رغم كل الضغوطات والتقلبات، لم يتخلَّ يوماً عن القدس…، ولعلّ موقف وزارة الأوقاف المغربية في خمسينيات القرن الماضي حين رفضت التفاوض مع الاحتلال حول وقف عين كارم، واعتبرت ذلك شبهة اعتراف بشرعية باطلة، يختصر عقيدة ثابتة: لا مساومة على القدس، ولا تنازل عن الحق.
واليوم، وبعد قرون من الرباط، يخرج الشعب المغربي شاهراً صوته في وجه الاحتلال من الرباط إلى الدار البيضاء، ومن طنجة إلى فاس…، يهتف الناس للقضية التي ما غابت عن ضميرهم ووجدانهم. في كل مسيرة، علم فلسطين يرفرف بجانب علم المغرب، وفي كل مظاهرة، تتعالى الهتافات: “فلسطين أمانة، والقدس لنا”.
المسيرة الأخيرة في العاصمة الرباط لم تكن حدثاً عابراً، بل مشهداً استثنائياً أكّد أن الشعوب التي تنتمي إلى تاريخها لا تُباع ولا تُشترى، فآلاف خرجوا، نساء ورجال، أطفال وشيوخ، يحملون همّ غزة في قلوبهم، ويشجبون المجازر والإبادة والعدوان، وقد كانت هتافاتهم نبضاً حيّاً في وجه صمت العالم المريب.
وفي هذا السياق، برزت مواقف ملهمة، كموقف المهندسة المغربية ابتهال أبو السعد، التي قاطعت شركة “مايكروسوفت” بسبب دعمها للاحتلال، رغم علمها بما قد تكلّفه هذه الخطوة من أثمان مهنية، ومثلها كثيرون من مغاربة الداخل والخارج، ممن اختاروا أن يقفوا إلى جانب الحقيقة، مهما كلّفهم ذلك من تضحيات.
وليس غريباً أن تسطع من جديد أصوات نساء مناضلات في مجموعات مثل “مغربيات ضد التطبيع”، اللواتي أكّدن أن قضية فلسطين ليست مسألة جغرافيا أو سياسة، بل قضية كرامة وحرية وعدالة إنسانية تتجاوز الحدود، وترتبط بأعمق ما في النفس من قيم ومبادئ.
وفي ظل حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، فإن الموقف المغربي لا يتوقف عند الاحتجاج، بل يمتد إلى الدعم المادي والمعنوي، من كفالات للأطفال واليتامى، إلى تمويل مشاريع ترميمية في القدس، ودعم صمود المقدسيين في وجه التهجير القسري وهدم المنازل ومصادرة الأراضي.
هذا النموذج المغربي، الممتد من الحضور التاريخي إلى الفعل الميداني، يجب أن يُروى للأجيال، ويُعلّق في أعناقهم، لا أن يُهمّش أو يُختزل لأنه يمثّل مدرسة كاملة في الوفاء، وفي الرباط، وفي نصرة المظلوم، هذه المدرسة المغربية تُذكّرنا بأن المسافة لا تصنع الغياب، وأن الوفاء لا يُقاس بالموقع، بل بالموقف.
في الأخير، إن ما يقع من تطهير عرقي في غزة يمتحن الضمير الإنساني، وللأسف العالم يُراقب دون أن يقف في وجه الاحتلال ويوقف هذه المجازر المروعة…، لكن في زمن الانكشاف، يختار المغاربة أن يكونوا في الصف الذي لا يخون، في الصف الذي لا يُساوم، في الصف الذي لا يصمت حين تتكلم بنادق الموت.
وليشهد التاريخ أن المغرب، دولة وشعباً، بقي وفياً للقدس… وأنه في لحظة السقوط الكبرى، لم ينحنِ.