أدب

سوريا المُتخيّلة، المُشتهاة.. أو المستحيلة

أبريل 7, 2025

سوريا المُتخيّلة، المُشتهاة.. أو المستحيلة

“عن بلدنا لم أستطعْ، كما أريد،

أن أتحدّث للبلدان المزروعة تحتَ القمر”


سقوطُ النظام المفاجئ، واستيقاظ الأمل داخل السوريّ الذي لم يعرف غيرَ النصر المُصادَر من قبل، وشعوره بالانتماء والهوية، وتتالي أفواج العائدين خلال الشهر الأول. خلقَ مساحةً من الفراغ في وجدانه الإنساني عن معنى الوطن وماهية البلاد، بسبب انتقاله من خانة الثائر، إلى خانة المواطن ذي الحقوق والواجبات.


في وقتٍ مثل هذا، وفي واقعٍ مماثل، يتخيّل السوريون اشتراكًا في همٍّ يعرف الأرض، ويعرف وضع البلاد، ويعرف الناس. لكنّ السردية التي يُفترض بها أن تشغل هذه المساحة من الفراغ لم تكن موجودةً (على الأقل في ما يتم تصديره). في حين شغلت سرديّة مضادة مساحةَ السؤال بغير قصد: سوريا التي لا تشبهنا، سوريا “المصدّرة”، سوريا “البديلة”، سوريا “الاختزالات”. التي لطالما قدّمها النظام في أطروحته عن البلاد والترويج لها. (الأموي وقاسيون والياسمين). في ثلاثية التاريخ والطبيعة والجمال.


يحقّ للجميع عزو اشتغال المحلّ بحكايةٍ بديلة عن الوطن الذي يفترض بنا معرفته، للأسباب التي يرونها. لكنني أتجاوز الأسباب إلى التحليل، وفهم المشكلة.


حين غادر السوريون البلاد قبل أعوام في رحلاتهم الطويلة، حملوا مع حقائبهم -إن استطاعوا- ذكرياتهم عن وطنٍ حقيقيّ، وطنٍ قديم، وطنٍ يشبههم. (وأقصد هنا هموم الإنسان البسيط). وحملوا بالطبع في مغاور قلوبهم، قداسةَ الثورة. هذه الصورة التي عرفوها عن البلاد، ربما لم تستطع الصمود في جيلٍ جديد نشأ في أماكن متفرقة من العالم الواسع، ولم يعرف عن سوريا غير لحظة الولادة، واشتعال الثورة. فشغلته صراخة الحدث وفجاعة المأساة.


في وقتٍ تقادمت فيه البدايات، حتى صار الاستثناء قاعدةَ القواعد، تراكم الغبار فوقَ كل شيء، ومن ذلك ذكريات السوريين وقلوبهم. لم يجد جيل الخارج الجديد صورةً عن الوطن حينَ اكتسبه وشعر بالنصر. فسعى بحثًا عن صورة نظيفة، تلمع، صورة سريعة، صورة تشبه النصر في الملاحم الكبرى، صورة عن حورية ظفر بها فارس، تشبه بلاده المُشتهاة المتخيّلة التي سمع عنها في الحكايات فقط، لم يجد غيرَ ثلاثية الأموي وقاسيون والياسمين.


المتابع للمشهد بدقة، يرى بالطبع المسارات الثلاثة التي تبدو متباعدةً ربما، وتخلق صدوعًا كبيرة. لكنها في الحقيقة دليلٌ على مأساة السوريين، حتى على مستوى ممارستهم لحياتهم الاجتماعية والإنسانية وتعريفهم للهوية والوطن. 


بين عينٍ تبكي وفاءً لمآتم مؤجلة، لشهدائنا ومعتقلينا. وقلوبٍ تفي بنذور قديمة، وتبحث عن المفقودين فوق الأرض وتحت الأرض. في الساحات والكراجات، في عيون الآخرين إن كانوا رأوهم. وتلملم الأمل من زوايا الكلمات، تخلقُ التلميحات حتى من الجمل القاطعة باستشهادهم. هذه العيون والقلوب التي تبكي عنها وعنّا جميعًا.


بين تلك العين وعينٍ تنظر في واقعٍ يبعث على الأسى وتراقبُ الأحياءَ الأمواتَ. تبتلع الحسرة على مدنٍ لم تعد مدنًا، وفقرٍ لا تكاد تخلو من مظاهره زاويةٌ في البلاد. هذه العين التي ربما لا تدمعُ إلا آخر الليل، وهي تقلّب الحلولَ، حتى تلك المُعجزة منها، لا تقارن بحجم مشكلاتنا. أطفال المخيمات الذين صاروا شبابًا لا يعرفون القراءة. بلدٌ تفتقر للأدوية، في حين يملؤها السلاح. كهرباء، ماء، خبز، غاز، سلع، أسعار. هذه الحلوق التي تتحسّس ريقًا من العلقم والشوك.


بين تينك العينين، عينٌ مشدوهة ترى بلدًا من عالم الخيال تبحثُ عنه ولا تراه. فتحاول خلقه في صورة ثلاثية تسللت للقلوب، بسبب مفاجأة النصر. دمشق الأسطورية، بلد البيوت الدمشقية، وياسمين الشوارع، وأزقة الشام القديمة. عين تبحث عن ألف ليلة وليلة. 


في هذه العيون الثلاث تظلّ جميع الشواهد، دليلًا على جريمة لا مثيل لها، شوّهت الدواخل، في سابقةٍ لم يعرف الإنسان كيف يعالجها ناهيك عن فهمها. أفكر فقط في الخيبة التي مُنينا بها كجيل، وستظلّ تلاحقنا طويلًا، ونحن نسترق النظر إلى وطن نعرفه ولا نعرفه. بين سوريا التي تخيّلها البعض، وتمنّاها البعض، ويراها البعض ما زالت بعيدةً جدا، أو حتى مستحيلة.

شارك

مقالات ذات صلة