مدونات

وَهمٌ بين إبادتين!

أبريل 7, 2025

وَهمٌ بين إبادتين!

للكاتبة: غيداء حسن عويضة


كُتب لنا أن نتنفس رائحة الأمان لشهرين متتالين، فما كان منّا إلا أن اعتقدنا أنّنا سنأخذ نصيبًا كافيًا من النجاة أو أننا وُهِبنا راحةً لم نعرفها منذ عام وأقل من النصف. هذه كانت ظنوننا نحن من عشنا أهوال الحرب كلّها واستطعنا أن نخرج منها بجسدٍ مُرهق، وعقلٍ منهك، وقلبٍ ميّت. لم يكن أمامنا إلّا التسليم بهذا، وأنّ هذه هي فرصتنا لننجو بما تبقّى منا. فبدأنا من حيث انتهوا، أقصد من نقطة أبعد من الصفر بقليل، هذه النقطة التي وقف عندها العداد الذي يحسب سنين عمرنا فلم نعد نكترث بمرور السنين لأنها تتشابه في كل شيء سوى حقيقتها.


كلٌّ بدأ يتحدّث إلى نفسه، فيذكر كم هي الخسارات التي أوصلت قلبه إلى ذلك العجز، فيدرك حينها أنه خسر كلّ شيء حتى نفسه السابقة. فتمرّ أيام الأمان كلّها أمام ناظريه، لا يدري ماذا يصلح، ليس لأنّه لا يعرف، بل لأنّه ظنّ نفسه لن ينجو ولم يفكر في اللحظة التالية.
فكيف يفكّر بالنجاة من نزح تحت أصوات القذائف والقنابل والرصاص والطائرات والصواريخ؟ نزح تاركًا بيتًا وضع فيه تعب عمره كلّه، والتجأ إلى خيمة لا تقي الحر ولا البرد ولا الصواريخ، ولا صوت أنين قلبه. نزح وهاجمه الجوع والمرض والفقد وقلّة كل شيء. فكيف تكون النجاة عندئذ؟ لربما كان التفكير فيها ضربًا من الجنون والخيال، أو أملًا غليظًا كان يمرّ على مَن هم أقلّ منه ابتلاءً.
ففي تلك الفترة، أحيت بعض العقول أحلامًا قد دفنتها مدّة الإبادة الطويلة، ونالت بعض القلوب حبًا قد أخمده البُعد القسري وشُحّ الاتصال، وتناغمت بعض ألحان الأناشيد التي كُتبت لتصف عودة الغزّيّين إلى حبيبتهم التي اشتاقوا لها. بدأت الابتساماتُ الخجِلة بالظهور، والمَعِداتُ الخاوية بالاكتفاء، والوجوه الشاحبة بالتورّد، كلّ هذا لأنّها أحسّت بالأمان المسلوب منذ زمن، حتى لو كان هذا الشعور ليومٍ واحد فقط.


كان البعض منّا يقول إنّ هذه الفترة كانت بمثابة ولادة جديدة، وكأنها حياة أُخرى في مكان مختلف، ولم نكن نعرف أنّها فاصلٌ بين إبادتين.
لهذه اللحظة وجلّنا لم يدرك بعد أنّ إبادةً استمرت شهورًا عديدة تُعاد الآن بنازية أكبر!

كلّ المخاوف عادت لنا بطريقة أبشع، فالصواريخ المزلزلة، والمدافع التي تُسقط كلّ معاني القوة النفسية، والنزوح المفاجئ تحت النيران، والمجازر بحقّ الضعفاء، والخيام التي ارتصفت في الشوارع دون أدنى مقومات، والجوع الذي مزّق قلوب الأمهات والآباء على أطفالهم، والفقد المتكرّر للأحباب، والأشلاء المتطايرة، و”الشهيد المجهول”؛ كلها ألفاظٌ حاولنا أن نتجاوز شدّتها وقسوة وقعها على قلوبنا في فترة الهدوء النسبي، لكيلا تلتصق بعقولنا بعد ذلك، لكنها صارت ملازمة لكلّ شيء غزّي وكأنها التعريف الحقيقي لنا.
هذا التعريف نزع منّا حقّنا في حياة بلا موت، أو كما يفضّل العالم: “بلا بطولة”.


الإبادة بعد هذا الوهم كانت بمثابة محوٍ لكلّ محاولة تأقلم أجبرنا أنفسنا عليها، غير راضين، ولكن لا خيار آخر. تُقصف البيوت المهدومة التي استصلح أهلها حائطًا مائلًا للخيمة، ويُقتل ما تبقّى من أطفالٍ لأمٍّ مكلومة صابرة.
يتضاعف صوت الصواريخ الحديثة، فلا مبانٍ بقيت لكي تحجب الصوت قليلًا، فكلّ صوتٍ يُسمع صداه في كل أنحاء القطاع.
تهتزّ الأرض من تحتنا جميعًا كشيء أشبه بزلزال يهزّ قلوبنا.
نُسفت آخر تجربة كاذبة للتمثيل بالقوّة، فكلّنا ضعيفٌ هنا ولا يقوى على سماع صراخ الفاقدين الخائفين، فكيف بصراخ نازحين أحياء حرقتهم آلة الصهاينة؟

عوّدتنا غزة ألا يذهب ألمنا سُدى، وأن نكفر بكلّ أحدٍ يدّعي الإنسانية ولم يفعل شيئًا، وأن ندرك حقيقة هذا العالم الأعمى والحقير.
تُركت غزة يداوي أبناؤها جروح بعضهم، ويربط آباؤها على قلوب بعضهم، وتحتمل نساؤها قهرًا وألمًا لو وُزّع على العالم لكفاه.


لن نطلب هذه المرّة العون من أحد، ولا نعتقد أنّ هناك قلوبًا تذوب علينا كما تذوب أجسادنا هنا. لم يبقَ في أذهاننا كلامٌ نعاتبكم به، ولم يبقَ مشهدٌ لم تروه، ومات الصحفيون وهم ينادون على الشريف منكم فلم يُجب أحدٌ، فعرفنا حينها أنّ صوتنا وإن سمعتموه، لن يكون إلا حُجّةً عليكم يوم يسمع الله شكوانا أمام الملأ، ونحن نقول: لقد خذلونا يا رب، فماذا أنتم قائلون؟

شارك

مقالات ذات صلة