سياسة
في نمط حياة استهلاكي، لا يعرف أكثر من لون السيارة الفارهة، ووجهة السفر القادمة، والشقة التي تطل من بناية زجاجية تناطح السماء على العامة متناهيي الصغر في الأرض، بينما يراقب عدد المتابعين اليوم بالنسبة لما قبل أسبوع، وكم مشاهدة حصد مقطعه الأخير، متفقدًا عروض الإعلانات من أي مكان كان، دون سؤال عن نوعه أو شكله أو ملته، وإنما المال من أجل المال، ولذا فإنه يتجهز للمهرجان القادم، والتجمع الذي ستعقده حكومةٌ ما لجمع “المؤثرين” في منتدى واحد، مغذيةً شعور الانتفاخ لدى كل منهم، وموهمةً إياه بأن له وزنًا وقيمةً، بغض النظر عن “اللاشيء” الذي يصنعه، واللامحتوى الذي يقدمه؛ يدور هؤلاء في عجلةٍ استهلاكية هم منتَجها، وسلعتها، ومشغّلها، تمامًا كأن يعمل الإنسان عبدًا عند سيده، لكن في هذه الحالة فإن العبد والسيد هما هذا الإنسان ذاته!
في العالم أشياء أخرى غير ذلك، لا يراها هؤلاء جديرةً بالنظر والتضحية، إلا إذا كانت في سياق “ترند” مضمون العواقب ومأمون الجوانب، لن يحرمه من درهم واحد قادم، ولا يهدده بقطع عقدٍ واحد قائم، فيمكنك أن تشحن هذا المشهور في عربة أو طائرة، ليقف أمام معبرٍ إن شئت، أو يشارك في وقفة، أو يحمل حتى علم فلسطين في ميدان، كل ذلك يسير في إطارٍ محدد، لا ينزعج منه السادة الذين يحركونهم كعرائس “الماريونيت”، ببضعة عقود مع شركات أو مناصب في كيانات رخوة، حتى يتملّكهم ذلك المتحكم الغامض من خلف حجاب، فلا يتحركون إلا بأمره، ولا ينتهون إلا بنواهيه.
في بقعةٍ أخرى قريبة، ليست أبعد أبدًا من العواصم التي يسهرون ويمرحون ويسرحون فيها كل ليلة، يموت الناس بلا أكفان، وتدفَن الجثامين بلا أبدان، وتوضع الأطراف في أكياس بلاستيكية سوداء، وتجمع أشلاء عائلة كاملة من عشرين فردًا في قبر واحد، يسعهم، ويضيق بمأتمهم، ويبكي الكبار حول المقابر لأن الصغار هم الذين بالأسفل، ويبكي الناجون أنفسهم، لا المفقودين، لأنهم بنجاتهم هلكوا، وتهتز الأرض حتى لتكاد تبتلع السماء من شراهتها للموت ونقمتها على الحياة، كل ذلك في بقعةٍ عربيةٍ أصيلة اسمها غزة، يسكنها مليونا ضحية ممن يقاومون الذل بصدورهم، ويحفرون العزل بأظفارهم، فيعاقَبون بالموت صورًا وألوانًا وأشكالًا.
ومنذ بدء ذلك العدوان، وإنسانيو العالم كلهم يتحركون، نحو قضية قد لا تخصهم، أو كانوا لا يلقون لها بالًا قبل ذلك الوقت، ممثلين ومشهورين وأصحاب مناصب ورأي وقرار، الكثيرون ضحوا بكل ما بنوه طوال أعمارهم، والشبان ضحوا بمستقبلهم القريب، والطلبة ضحوا بسنوات الجامعة الغالية ومصاريفها الباهظة ليكونوا في صف غزة، وليقولوا معذرتهم إلى التاريخ الذي لن يسامح شريكًا في القتل، أو ساكتًا عن الإبادة.
وهؤلاء الذين كان يقصدهم آلان دونو في “نظام التفاهة”، حين قال “ضع كتبك المعقدة جانبًا، لقد شُن الهجوم بنجاح، وتصدر التافهون مواقع التأثير”. ببعض التصرف أود أن أقول “ضع قضاياك المهمة جانبًا”، فهاهي غزة، قضية لا أصنفها إنسانية ولا دينية ولا عربية ولا قومية، وإنما “قضية بدهية”، لا تستدعي الانتماء إلى جماعة أو حضارة أو تاريخ أو جغرافيا معينين، وإنما فقط أن ينتمي الإنسان إلى نفسه، وفطرته، ومنطقه، سيجد نفسه فجأةً في صف غزة بكل ما يملك.
لماذا يصمت بعض المشاهير؟ إجابتهم هو أن غزة تؤلمهم حقًّا، وتوجعهم مثلنا تمامًا، لكن ماذا ستفعل الكلمة؟ ثم ماذا سيجدي الكلام إن كانوا بالفعل يدعمونها بالمال لكنهم لا يشاركوننا ذلك خشية الرياء ولاعتبارات أخرى، ولأن “اللي بيعمل مبيقولش، واللي بيقول مبيعملش”، أما عن عقود الدعاية والرعاية لعلامات تجارية شريكة في دعم الاحتلال، فإن ذلك لارتباطهم بعقود وشروط جزائية لا يمكنهم تجاوزها، ولا تحمل المخاطرة فيها.
أما إجابتي، فهو أن تلك البلادة والأنانية قادمة من شعور الاستحقاق بلا حق، فهم يستحقون حياةً لا يلومهم فيها أحد، ولا يسألهم عن مواقفهم، إما أن تتابعني وتصفق أو لتسمعنا خرسك للأبد، ثم من أنت لتسائلني، مجرد متابع، رقم لا يكاد يلاحظ وسط هذه الملايين، هكذا هو منطقهم، والحقيقةُ التي يغفلون عنها أن غزة لا تريد منهم الفتات الذي يلقونه، لأن معنى التضحية والنصرة ليس بما يختاره المتضامن، وإنما بما يحتاجه المنكوب، فلا يصلح أن ينزل الرئيس مظاهرة لغزة بينما يفتح علاقات تجارية مع إسرائيل، ولا يصلح أن يتحدث رجال الأعمال تضامنًا مع غزة دون أن يدعموها بالكثير من الأموال، وبالمثل، هذه النوافذ الشهيرة لا تصلح أن تدفع فتاتًا، بينما لا تقول “كلمة”، تخشى أن تهدد صفحاتها ذات يوم.
ذلك جبنٌ وخسة وتفاهة، ودوران في عجلة استهلاكية مستنزفة، وقبول بالتفريخ في مزارع الدواجن التابعة للسلطات، في تلك البيئة التي يتنافسون فيها على الأضواء، وعلى الأجور، بينما تمثل فلسطين برمتها، وهويتهم نفسها، وكينونتهم، وحتى كرامتهم، أمورًا جانبية لا تعني شيئًا، وبعضهم إن قابل قاتل أبيه وأخيه فلن يحجم عن مصافحته، إن كانت في كفه الأخرى دولارات يدسها في جيبه.
لماذا يصمت بعض المشاهير؟ لأنهم بائسون، بهذا الحجم التافه من التأثير، في تلك اللحظة المهينة لهم، بينما كان بإمكانهم أن يكونوا أصحاب تأثير بالغ وضخم، فقط إن قرروا الحديث عن إخوةٍ لهم، لا يفصل بينهم إلا حدود من سراب، وبعض الحواجز الحقيقية، المصنوعة بعناية، لكنها مادية على كل حال، لا يمكنها حجب حرف، ولا منع موقف، من الوصول لأصحابه الذين يحتاجون إليه أمسّ الحاجة.
للأسف ولحسن الحظ معًا؛ نحن أمام حقيقتين كبريين، الحقيقة الأولى أن مراكز صناعة التفاهة والتأثير وإلجام جيوش “الإنفلونسرز” بإغراءاتها وإقاماتها الذهبية وشققها الفندقية نجحت بالفعل في استقطاب هذا الكم الهائل من الحمقى، الذين قد يستبسلون بكاءً، ومكاءً، وتصدية، حمدًا لوليّ نعمتهم، ومسحًا لبلاط الأمراء والأسياد، لكنّا على كل حال لم نخسرهم لأننا لم نربحهم مرةً قبل ذلك في الأساس، بل هم الذين خسروا، أنفسهم أولًا.
أما الحقيقة الثانية، التي قصدتها بحسن الحظ، أن غزة نجحت في كشف ذلك القناع المقزز عن الكثيرين من أصحاب الفقاعات الوهمية الفارغة، وأن جماهير العالم الواعية، صاحبة القرار، والتأثر والتأثير الحقيقيين نجحت في وضع هؤلاء في حجمهم الذي يستحقونه من البداية، وفي تجاوزهم تمامًا، والنظر لهم شزرًا، ووضعهم في هامش الحياة، ولا يهم العدد، فلو نظّمت الفئران مليونية، أو مليارية، في إحدى مجاري الأنفاق، من سيشعر بهم؟ ومن سيلقي لهم بالًا؟ بل من سيراهم أصلًا أو يلاحظ أى تأثير أو تغيير؟ هم هناك في ذلك القاع، ولم يكن متبقيًّا إلا أن تضع غزة فوقهم غطاء البالوعة، حتى لا يعلو ضجيجهم، على صوتها المقدّس، وحنجرتها النديّة.
وداعًا، أيها التافهون. (صوت شدّ حبل المرحاض، والصوت الذي يتبعه).
انتهى،،،،
للأسف ولحسن الحظ معًا؛ نحن أمام حقيقتين كبريين، الحقيقة الأولى أن مراكز صناعة التفاهة والتأثير وإلجام جيوش “الإنفلونسرز” بإغراءاتها وإقاماتها الذهبية وشققها الفندقية نجحت بالفعل في استقطاب هذا الكم الهائل من الحمقى، الذين قد يستبسلون بكاءً، ومكاءً، وتصدية، حمدًا لوليّ نعمتهم، ومسحًا لبلاط الأمراء والأسياد، لكنّا على كل حال لم نخسرهم لأننا لم نربحهم مرةً قبل ذلك في الأساس، بل هم الذين خسروا، أنفسهم أولًا.