مدونات

مجزرة بحق المسعفين.. والمنقذ يبحث عمن ينقذه!!

أبريل 6, 2025

مجزرة بحق المسعفين.. والمنقذ يبحث عمن ينقذه!!

للكاتب: ظاهر صالح

 

شيئًا فشيئًا، تتكشّف بشاعة المجزرة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق عاملين في مجال الإسعاف والإغاثة، كانوا في طريقهم لمحاولة إنقاذ أرواح، في ما بدا أنها جريمة مكتملة الأركان، وتندرج في إطار حرب الإبادة والتهجير ضد الشعب الفلسطيني، وتكشف بشاعة ما ترتكبه قوات الاحتلال بشكل يومي بحق المدنيين الفلسطينيين وطواقم العمل الإنسانية والأممية والطبية والصحفية، لترهيبها ومنعها من تقديم أي عون لشعبنا في القطاع، بهدف قتل أشكال ومقومات الحياة كافة، وتحويله إلى أرض غير صالحة للحياة البشرية، على طريق فرض التهجير القسري على المواطنين الفلسطينيين.

في واحدة من أكثر المجازر الدموية بشاعة، لم تسلم طواقم الدفاع المدني والهلال الأحمر الفلسطيني، التي لبّت نداءات ومناشدات أهالي حي تل السلطان غرب مدينة رفح (جنوب قطاع غزة)، ليرتكب الاحتلال مجزرة مروّعة بحق المسعفين بإعدامهم ودفنهم في حفرة جماعية، وقد عُثر على المركبات مجمّعة فوق بعضها أعلى الحفرة. ذهبت الطواقم لإنقاذ أرواح المواطنين، فعادوا “جثثًا مدفونة في حفرة جرفتها الجرافات العسكرية”، بهذه الكلمات يختصر والد أحد شهداء فرق الإسعاف في غزة، المأساة التي حلّت بعائلات 15 من أفراد الطواقم الطبية الذين قُتلوا بدم بارد، وفقًا لشهادات الشهود، ثم طُمرت جثامينهم في حفرة ترابية قرب منطقة تل السلطان في رفح، جنوبي القطاع.

المجزرة التي ارتكبت في فجر 23 آذار/مارس الماضي هزّت الشارع الفلسطيني وأثارت استنكارًا واسعًا، خاصة بعد العثور على الجثث مقيّدة الأيدي وعليها آثار تعذيب واضحة. أجرت صحيفة “الغارديان” مقابلات مع ذوي الشهداء الذين تساءلوا: ما هي جريمتهم؟


المسعف الشهيد صالح معمر

في منزل عائلة معمر في خانيونس، بدا الحزن مخيمًا كظل ثقيل لا يغادر. بلال معمر، شقيق الضحية صالح (45 عامًا)، يروي اللحظات الأخيرة قبل أن يغادر صالح منزله متجهًا إلى ورديته الليلية: “اشترى كميات كبيرة من المواد المنزلية، وقال إنها ستفيد عائلته في المستقبل، وكأن قلبه شعر أنه لن يعود”.

كان صالح قد نجا من الموت مرتين خلال حرب الإبادة الحالية، مرة حين أُصيب برصاصة قرب قلبه، وأخرى حين جُرح في كتفه خلال مهمة إنقاذ. “كان يقول لي مازحًا إن الثالثة ستكون القاضية، لكنها لم تكن مزحة”، يقول بلال.

انضم صالح إلى جمعية الهلال الأحمر عام 2008 بعد أن أنهى دراسته في إدارة الأعمال بجامعة الأزهر، لكنه ترك كل شيء ليكرّس حياته في خدمة الجرحى والمصابين. يضيف شقيقه: “لم يكن مجرد مسعف، بل كان إنسانًا بكل ما تعنيه الكلمة، كان يصلح سيارات الإسعاف بنفسه، يزور المصابين في بيوتهم، ويوزع الأدوية التي يملكها”.

عند الساعة الرابعة فجرًا، وبعد تلقيه بلاغًا بفقدان زملائه إثر غارة من طيران الاحتلال الإسرائيلي على منطقة هاشاشين في تل السلطان، قاد صالح قافلة إنقاذ ضمت 13 من زملائه، بينهم عناصر من الهلال الأحمر والدفاع المدني، بالإضافة إلى سيارة تابعة للأمم المتحدة، لكن القافلة لم تصل إلى مبتغاها.

بحسب منذر عبد، المسعف الوحيد الذي نجا من كمين القوات الإسرائيلية، تم اعتقاله تحت تهديد السلاح، ثم أُجبر على مشاهدة القافلة وهي تُستهدف واحدة تلو الأخرى. بعدها، شاهد حفارًا عسكريًا يجهّز حفرةً كبيرة طُمرت المركبات والجثث فيها.

قضت العائلات أسبوعًا في حالة من الانتظار القاتل، حتى وردت مكالمة تخبرهم بالعثور على الجثث في مستشفى ناصر في خانيونس. يقول بلال معمر: “عندما وصلت، رأيت الكفن الأبيض مكتوبًا عليه اسم أخي، فتحت الغطاء وتساءلت مترددًا: هل هذا هو؟ لم أكن متأكدًا حتى رأيت خاتمه!” ويؤكد بلال أن على جسد أخيه علامات واضحة على التقييد والكسر، خصوصًا في اليدين والأصابع، ما يثير الشكوك حول تعرضه للتعذيب قبل الإعدام.


محمد بعلول.. مسعف متطوع

في زاوية أخرى من المستشفى، جلس صبحي بعلول، في صمتٍ مطبق، أمامه جثمان ابنه محمد، المتطوع في الهلال الأحمر منذ عام 2018، والذي لم يكن يتلقى أي أجر مقابل عمله. يقول الأب الستيني: “كان في طريقه ليصبح موظفًا، لكن ذلك لم يكن يهمه. كان يؤمن أن الخير يُفعل لوجه الله”.

يحمل محمد شهادة في التمريض من جامعة الأزهر، وكان يتابع دراسته في الإدارة الصحية بجامعة القدس المفتوحة، ويحلم بأن يصبح قائدًا في الطواقم الطبية. الوالد صبحي بعلول تحدث عن تلك اللحظة الصعبة التي تعرف بها على جثمان ابنه: “وجدنا في جيبه هويته، وعرفت وجهه بصعوبة. كان مصابًا بأربع رصاصات في صدره، إحداها مرت من يده إلى قلبه”، قال صبحي، مضيفًا بصوت منخفض: “ربما كان يحاول صد الرصاص بيده”.


دحض رواية الاحتلال

جيش الاحتلال الإسرائيلي أصدر بيانًا مقتضبًا قال فيه إن قواته أطلقت النار على مركبات تقدمت بشكل مريب دون إشارات إنقاذ، مدّعيًا أن مقاومين استخدموا سيارات الإسعاف للتنقل، دون تقديم أي دليل. لكن عائلات الضحايا اعتبرت هذا الادعاء إهانة مضاعفة. يقول بلال: “هؤلاء كانوا أناسًا يقدمون خدمات إنسانية فقط. لا يحملون سلاحًا ولا يشكلون خطرًا”.

فلتخبروا، ما كانت جريمتهم؟ صحيفة “نيويورك تايمز” دحضت مزاعم الاحتلال، ونشرت بالأمس مقطع فيديو يبيّن اللحظات الأخيرة لطواقم الإغاثة الإنسانية في منطقة تل السلطان بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، قبل أن تستهدفهم قوات الاحتلال الإسرائيلي بوابل من الرصاص.

وأوضح الفيديو أن أضواء سيارات الإسعاف والدفاع المدني كانت تعمل، مما يُنقض مزاعم جيش الاحتلال الإسرائيلي بأن قواته لم تكن تعلم أن الهدف الذي استهدفته كان فريقًا إنسانيًا. الفيديو، الذي تم العثور عليه على هاتف أحد المسعفين الذين تم اكتشافهم في مقبرة جماعية في غزة، يوثق الحادثة بشكل واضح. يظهر الفيديو قافلة من سيارات الإسعاف وشاحنة إطفاء تتجه جنوبًا على أحد الطرق شمال مدينة رفح، جميع المركبات تحمل الأضواء التحذيرية المضيئة بوضوح، مما يثبت أنها كانت في مهمة إنسانية. وبعدما توقفت القافلة لإسعاف إحدى سيارات الإسعاف التي تعرضت للهجوم، سُمع صوت كثيف من نيران الجيش الإسرائيلي التي أدت إلى استشهاد كامل أفراد القافلة الإنسانية.


هذا الفيديو الصادم لا يُعد مجرد مشهد مأساوي، بل يمثل وثيقة دامغة على وحشية وهمجية الاحتلال، وانتهاكه السافر لكل القوانين والمواثيق الدولية، في محاولة متعمدة لإخفاء الجريمة عبر دفن الضحايا في مقابر جماعية وطمس الحقيقة، في مشهد يعكس الطبيعة الفاشية والإجرامية لهذا الكيان، ويضيف فصلًا جديدًا إلى سجل جرائمه ضد الإنسانية.

هذه الجريمة ليست الأولى، بل تأتي امتدادًا لسلسلة طويلة من جرائم اعتداءات الاحتلال الفاشي على طواقم الإسعاف والدفاع المدني، والعمل الإنساني، وانتهاكاته المستمرة بحق المدنيين العزّل في قطاع غزة، في ظل صمت دولي مخزٍ يوفر غطاءً لاستمرار هذه الجرائم بحق الإنسانية.

لقد آن الأوان للدول العربية والإسلامية، خصوصًا تلك التي لديها اتفاقات “تطبيع وبترول”، أن تخرج من صمتها المُريب، وترسل رسالة للولايات المتحدة الأمريكية بأن مصالحها في المنطقة مرتبطة بوقف العدوان والمجازر وحرب الإبادة في غزة.

وآن الأوان للأمم المتحدة وهيئاتها الدولية، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وكافة الضمائر الحية، للتحرك العاجل لتوثيق هذه الجريمة وكافة الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، وإحالتها إلى المحاكم الدولية، والعمل على محاسبة قادة الاحتلال كمجرمي حرب.

لهذا، يقع على عاتق أحرار العالم ووسائل الإعلام الحرة المساهمة في نشر هذا الفيديو وتوثيقه، ليكون شاهدًا حيًا إضافيًا على بشاعة الاحتلال، ودليلًا قاطعًا يفضح رواياته المضللة ويكشف زيفه وافتراءاته أمام العالم. فإذا بقي العالم صامتًا، فلن يغفر له التاريخ ولن يسامحه، وستبقى هذه المجزرة محفورة في ذاكرة الشعوب.

 

 

شارك

مقالات ذات صلة