سياسة

الجزائر والمغرب في منطقة الساحل: سباق النفوذ على الخرائط الجديدة للقوة

أبريل 3, 2025

الجزائر والمغرب في منطقة الساحل: سباق النفوذ على الخرائط الجديدة للقوة

في منطقة تتعاقب عليها التحولات الجيوسياسية -والتدخلات الأجنبية والبحث عن الحلول الجادة للخروج من عباء الامبريالية وتنامي التنظيمات الإرهابية -كما تتعاقب عليها الفصول، تتسابق الجزائر والمغرب لإعادة ترسيم الحدود غير المرسومة للنفوذ في الساحل. لا يدور الصراع بين الجارين المغاربيين حول مشاريع اقتصادية عابرة ولا حول خطابات دبلوماسية ناعمة، بل حول من سيملك النفوذ في صياغة المعادلة الإقليمية الجديدة، ومن ستقف خلفه دول الساحل التي باتت تبحث عن حليف يعيد لها البوصلة وسط فوضى الجماعات المسلحة والمصالح الأجنبية.


المغرب: حينما يمد الأطلسي يده للساحل

من الداخلة، المدينة الساحلية التي غدت رمزًا للسيادة المغربية على الصحراء الغربية، يُطلّ مشروع المغرب الطموح على أفريقيا الغربية، ملوّحًا برؤية متكاملة تجعل من الرباط لا مجرد حليف، بل شريكًا استراتيجيًا لدول الساحل الحبيسة. في سبتمبر 2023، أعلن المغرب عن مبادرة استراتيجية تهدف إلى مدّ جسور البنية التحتية بينه وبين دول الساحل الأربع: بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر، وتشاد. تضمنت المبادرة عرضًا مغربيًا لتوفير شبكة من الطرق والموانئ وخطوط السكك الحديدية، وتم تعزيزها في نوفمبر بخطة أشمل تشمل التكامل في مجالات الزراعة، والطاقة الشمسية، والتعليم، والتكوين المهني، والصحة.

وفي ديسمبر من العام نفسه، اجتمع وزراء خارجية الدول الثلاث الأعضاء في تحالف دول الساحل (AES) مع نظيرهم المغربي في مراكش، لتفعيل هذه المبادرة، وتشكيل فريق عمل يتولى مراحل التنفيذ. لم يكتف المغرب بعقد الاجتماعات، بل ترجم هذه التفاهمات إلى اتفاقيات عملية ثنائية، كما حصل مع بوركينا فاسو التي وقعت على حزمة اتفاقات جمركية وتنموية في يونيو 2023، ثم اتفاقًا عسكريًا في يونيو 2024 شمل التعاون في التدريب والمناورات المشتركة والخدمات الصحية العسكرية. وتكرّر الأمر مع النيجر، التي أوفدت في فبراير 2024 وفدًا رفيعًا ترأسه رئيس الوزراء، تبعه حراك دبلوماسي مغربي-تشادي في أغسطس أثمر عن خمس اتفاقيات شملت مجالات الجمارك والغابات والتعليم العالي.

لكن هذا الزخم المغربي لم يكن محض تنمية إقليمية خالصة، بل كان – من حيث الجوهر – امتدادًا ذكيًا لصراع تاريخي على السيادة في الصحراء الغربية. فمنذ انسحاب إسبانيا عام 1975، دخل المغرب وجبهة البوليساريو (المدعومة جزائريًا) في نزاع مزمن، انتهى إلى وقف إطلاق نار هش في 1991، مكّن المغرب من فرض سيطرته على 80% من الإقليم. هذا الهدوء لم يدم، ففي 2020 استأنفت الجبهة هجماتها عقب تدخل المغرب لإزالة نقاط تفتيش داخل المنطقة العازلة. وفي خطوة مفصلية، اعترفت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بسيادة المغرب على الصحراء، ما عمّق التوتر المغربي-الجزائري، ودفع الأخيرة إلى قطع العلاقات مع الرباط عام 2021، والدخول في تنسيق مع طهران لدعم البوليساريو.

في قلب هذه الاستراتيجية، يبرز مشروع ميناء الداخلة – بتكلفة تتجاوز 1.2 مليار دولار – كمحور تحويلي للمبادرة المغربية. من المتوقع أن يُنجز الميناء بحلول 2028، بطاقة تصل إلى 35 مليون طن سنويًا، ويرتبط بشبكة طرق ساحلية تعزز ربط الساحل الأفريقي بالمحيط الأطلسي. ويُراهن المغرب على هذا الميناء كرمز سيادي وسياسي، لا كمجرد مرفق لوجستي، إذ يُسهم في ترسيخ مغربية الصحراء عبر تفعيل الشراكات مع دول الساحل وإشراك المجتمع الدولي في مناطق سيطرة الرباط.

وقد بدأت هذه الرؤية تثمر، إذ افتتحت تشاد قنصليتها في الداخلة في أغسطس 2024، بعد بوركينا فاسو، في مؤشر على انحياز دبلوماسي جديد نحو الرباط، يُرجّح أن يتعزز في ظل الفراغ الجيوسياسي الذي تركه انسحاب فرنسا من الساحل، والصعود المتسارع للفاعلين الإقليميين غير التقليديين.


الجزائر: حضور ثقيل بظلٍ طويل

في المقابل، وجدت الجزائر نفسها أمام اختراق مغربي ناعم لكنه فعّال. فاختارت الرد عبر مزيج من التصعيد الدبلوماسي والانخراط الاقتصادي البديل. ففي فبراير 2024، أعلنت الجزائر عن مشروع إنشاء مناطق تجارة حرة مع مالي، النيجر، موريتانيا، تونس، وليبيا، غير أن غياب التنسيق الفعلي والتوترات مع مالي قوضت إمكانية التنفيذ.

ووصلت الأزمة مع مالي ذروتها في يناير 2024 عندما أعلنت باماكو انسحابها من اتفاق السلام الموقع عام 2015 بوساطة جزائرية، واصفةً الجزائر بالدولة المتدخلة في شؤونها الداخلية. وسرعان ما ردّت الجزائر بمناورات عسكرية قرب الحدود، ثم بتكثيف لقاءاتها مع قيادات الطوارق لإعادة ضبط المشهد في شمال مالي، الأمر الذي قابلته باماكو بسحب سفيرها. لكن عينّت مالي سفيرًا آخر لها في الجزائر في شهر مارس الفائت.

لكن الحقيقة، أن باماكو تنظر بعين الريبة إلى تصرفات الجزائر، وتتهمها صراحةً بإيواء الانفصاليين الطوارق، أولئك الذين تراهم الحكومة المركزية خطرًا على وحدة التراب المالي. لكن الاتهامات لا تقف عند هذا الحد، بل تتسع لتشمل دعم الجزائر لرمز التيار الإصلاحي والدعوي، الإمام محمود ديكو، الذي لا يزال يُنظر إليه كأحد أبرز الأصوات المعارضة للنظام السابق، بل ولأي سلطة لا تصغي لمطالب الإصلاح والعدالة. زيارة ديكو لقصر المرادية، حيث استُقبل رسميًا من قبل الرئيس عبد المجيد تبون، كانت كافية لإشعال فتيل التوتر، واعتبارها من طرف السلطة العسكرية في باماكو تحديًا لسيادتها، وميلًا جزائريًا لإعادة صياغة المشهد السياسي المالي من الخارج.

كما أن التوتر بين الجزائر والنيجر لم يكن أقل حدّة. فالحدود الطويلة بين البلدين تحوّلت إلى مسرح ترحيل جماعي للمهاجرين. أكثر من ثلاثين ألف مهاجر تم ترحيلهم قسرًا من الجزائر إلى النيجر خلال عام 2024، ما فجر أزمة إنسانية، وأدى إلى استدعاء السفراء، واتهامات متبادلة بخرق القانون الدولي. المفارقة أن النيجر، وتحت ضغط التحالف العسكري الجديد، ألغت القانون المدعوم من الاتحاد الأوروبي الذي يجرم تهريب المهاجرين، في خطوة تهدف للاستفادة من اقتصاد التهريب العابر للحدود.

ورغم هذا التوتر، حاولت الجزائر الحفاظ على خطوط تواصل مع نيامي، حيث زار رئيس وزراء النيجر علي الأمين زين الجزائر في أغسطس 2024 برفقة وفد رفيع، لبحث مشاريع الطاقة وأمن الحدود، بما في ذلك مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء الذي يربط نيجيريا بأوروبا.


تحوّلات جديدة ورأب الصدع

في خطاب يعكس التحول الواضح في بوصلة السياسة الخارجية الجزائرية، أكد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في ظهورٍ إعلامي له في شهر مارس الفائت، أن علاقات الجزائر مع دول الجوار الإفريقي، وخصوصًا مالي والنيجر، تجاوزت إطار الجوار التقليدي إلى مستوى الأخوّة والالتزام المشترك بالمصير الواحد. وقال تبون: “إخوتنا في مالي يعرفون اليوم أننا لسنا مجرد جيران بل أشقاء، ويدركون أننا لم نسعَ يومًا لفرض الإملاءات عليهم”، في ردّ واضح على بعض الأصوات التي تحاول تشويه الدور الجزائري في الجنوب.

كما لمّح الرئيس تبون كذلك إلى وجود طرف ثالث – خارجي غالبًا – يعمل على تسميم العلاقات بين الجزائر وجيرانها في الساحل الإفريقي، وهي إشارة لا تخلو من البعد الجيوسياسي، خاصة مع تنامي المنافسة الإقليمية والدولية في المنطقة.

اقتصاديًا، كشف الرئيس تبون عن أوامر مباشرة باقتناء البن وبودرة الحليب من دول إفريقية بدلاً من أوروبا، وفي مجال الطاقة، أوضح أن الجزائر تسعى اليوم إلى دعم النيجر وعدد من الدول الإفريقية في مشاريع الطاقة والكهرباء، عبر مشاريع استراتيجية كبرى تهدف إلى تعزيز الارتباط بالبنية التحتية القارية، بما في ذلك الطرق العابرة للصحراء وخطوط الألياف البصرية، في خطوة تُجسّد إرادة الانفكاك التدريجي عن التبعية الاقتصادية للقارة العجوز، وتوطيد روابط التعاون جنوب-جنوب. وضمن المسار نفسه، “من دون خلفيات أو أجندات استعمارية مغلفة”، مؤكدًا أن هذا التوجه مدفوع برؤية نابعة من الانتماء والتاريخ المشترك، لا من مصالح آنية.

واختتم الرئيس تبون تصريحه باعتراف ضمني بالغياب الجزائري عن الساحة الإفريقية خلال السنوات الماضية، لكنه أشار إلى أن الجزائر تحاول اليوم تدارك ما فوّته الزمن، عبر استعادة موقعها الطبيعي في عمقها الإفريقي، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، مؤكدًا أن الرهان اليوم هو على بناء علاقات تكامل حقيقية، تقوم على الندية والاحترام المتبادل، لا على منطق الهيمنة أو الوصاية.


الأوراق الجيوسياسية الضاغطة بيد من؟

رغم الزخم السياسي والدبلوماسي الذي رافق “المبادرة الأطلسية” المغربية، إلا أن المغرب يظل محرومًا من ورقة الجغرافيا المباشرة، حيث لا يملك حدودًا مع أي من دول الساحل، ما يجعله مرتهنًا للعبور عبر أراضٍ ثالثة مثل موريتانيا. في المقابل، تمتلك الجزائر حدودًا مباشرة مع ثلاث دول ساحلية رئيسية: 1376 كلم مع النيجر، 1373 كلم مع مالي، و463 كلم مع موريتانيا، ما يمنحها عمقًا استراتيجيًا طبيعيًا يُعزز نفوذها الجغرافي والتاريخي في المنطقة. كما أن الجزائر لعبت دور الوسيط المحوري في اتفاق السلام المالي عام 2015، وتربطها علاقات تقليدية راسخة مع قبائل الطوارق العابرة للحدود، وهي علاقات عززتها بأجهزة استخباراتية في الساحل منذ التسعينات، بحكم قيادتها الإقليمية لمكافحة الإرهاب.

كما تملك الجزائر كذلك أوراق ضغط اقتصادية استراتيجية، أبرزها مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء (TSP) الذي يربط نيجيريا بأوروبا عبر النيجر والجزائر، فضلًا عن دورها كممر رئيسي للهجرة غير النظامية من مالي والنيجر نحو المتوسط، ما يعكس قدرتها على التحكم في أحد أكبر ملفات التفاوض مع أوروبا وأفريقيا. وعلى الرغم من أن المغرب وقّع اتفاقيات عسكرية وتنموية مع بوركينا فاسو، وافتتحت كل من تشاد وبوركينا فاسو قنصليات في الداخلة دعماً لموقفه في الصحراء الغربية، فإن الجزائر لا تزال الأقرب إلى مزاج السلطات العسكرية في الساحل، بسبب موقفها المناهض للتدخلات الغربية، ومكانتها التاريخية كحاضنة لحركات التحرر. في المقابل، يُنظر إلى المغرب باعتباره أقرب للمعسكر الغربي، خاصة بعد تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ودعمه المفتوح للنفوذ الفرنسي والأمريكي في المنطقة، ما يضعف حضوره لدى النخب القومية والشعبية في دول الساحل. وبذلك، ورغم العثرات الدبلوماسية، تبقى الجزائر الطرف الأقدر على التأثير الجيوسياسي العميق والمستدام في الساحل، نظرًا لتداخلها الجغرافي، وخبرتها الأمنية، وأدواتها الاستراتيجية متعددة الاتجاهات.


خاتمة: نحو لحظة فارقة

الساحل ليس ساحة نزاع ثنائي بين الجزائر والمغرب فحسب، بل هو اختبار شامل لمعادلات النفوذ الجديدة في أفريقيا. المغرب يلعب على وتر الاقتصاد والتكامل الإقليمي، والجزائر تحاول تثبيت صورتها كضامن للاستقرار عبر أدوات دبلوماسية وأمنية. غير أن ما يجعل المشهد أكثر تعقيدًا هو هشاشة الأنظمة الحاكمة في الساحل بفعل غياب الأمن التام نتيجة تغلغل التنظيمات الموسومة بالإرهاب فيها. ومن هنا، فإن مستقبل الصراع لا يُقاس بالمشاريع والمبادرات فحسب، بل بقدرة كل طرف على بناء تحالفات مستدامة، واحترام خصوصيات الساحل، وتحويل النفوذ إلى التزام أخلاقي وليس مجرد ورقة ضغط.

شارك

مقالات ذات صلة