أدب

مقدمة المقدمات

مقدمة المقدمات

في ليلة العيد أقف أمام مكتبتي أطالع الرفوف، وأشاركك عزيزي القارئ شيئًا من ذوقي الخاص. أفتح أحد المجلدات الضخمة، فهو يجمع نحو سبعمئة صفحة، وهو مقدمات عباس محمود العقاد. أرى هوامشي بين السطور وعلى طرة الكتاب، وخطوطًا رسمتُها تحت السطور التي استوقفتني، وحكايات ذاتية للعقاد لفتت نظري بين كل هذه المقدمات، ثم أجلس على كرسيِّ غرفتي وحولي إنارة ضعيفة. لا أُحِبُّ النور الساطع في مكان القراءة؛ لعل بعض العتمة يفتح باب انثيال الذكريات. وآخُذ في التأمل لحظة قراءة هذا المجلد من مقدمات العقاد، في شتاء بارد قارس. كنت وحيدًا أفِرُّ مِن عزلتي في البيت، إلى مخبز قريب من منزلي في محمود بيه، وأطلب شايًا تركيًّا، واتدفَّأ في المكان، وأشمُّ رائحة الخبز، وأقضم من حلوى «التريلتشا»، وهي كعكة قوامها الحليب وعلى سطحها كراميل، وهي جدة القشطوطة قبل أن يداهمنا طوفان «بلبن» وأشكاله من الحلويات الزائفة. وزعمي هنا مبنيٌّ على وراثتي شيئًا من معرفة بصناعة الحلويات من أبي، رحمه الله، فقد كان لديه محل مشهور في زمنه باسم «حلويات الشرق»، رأيت فيه أصناف الحلويات المنوعة. كنت أشرب الشاي في هذا المخبز وأسرح في مقدمات العقاد التي جمعها وحرَّرها الكاتب القدير الدكتور عبد الرحمن قائد، وكتب لنا مقدمة ممتازة عن فن التقديم في الأدب العربي.


يلخِّص صاحبنا الأستاذ عباس العقاد الذي نقرأ مقدماته في هذا الكتاب -وهو من أكبر أدباء العربية وأبرز كُتَّاب المقدمات لعصره- المقصودَ الأعظمَ من تقديم الكتب بعبارة وجيزة في مقدمته لكتاب «ثورة العصر» لهيوسيتون واتسون، فيقول: «والمقصد الطبيعي من كل مقدمة تُكتب لرسالة في الموضوع أن نرى ما أضافته هذه الرسالة لهذا البحث الجديد، ونعرف ما السهم الذي اشترك به مؤلفها».

‏ونقرأ ما وقع في تقديم الأستاذ أحمد أمين لكتاب «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» للشيخ أبي الحسن الندوي، الذي أخبر أنه كان يشعر «كما كان يشعر كثيرٌ من قراء هذا الكتاب، أنّ مقدمة الدكتور أحمد أمين -رحمه الله- أضعفت قيمة هذا الكتاب، فلم تُكتب عن اندفاع وحماس، وإنما كُتِبت أداءً للواجب، أو إجابةً للطلب، وكان صاحبها لا يؤمن بفكرة الكتاب الأساسية، أو على الأقل لا يتحمَّس لها، وقد علَّق عليها الملك عبد الله بن حسين ملك المملكة الأردنية الهاشمية حين قرأ هذا الكتاب بقوله: إنَّ هذه المقدمة قد أساءت إلى هذا الكتاب».

‏ونقف عند طلب أحمد حسن الزيات من د. نعمات فؤاد أن تقدِّم لكتابه «دفاع عن البلاغة»، وهي -كما تقول- «رغبةٌ رائدة، فقد جرت العادة أن الأستاذ يقدِّم للتلميذ لا العكس». وكان الشاعر عزيز أباظة يقول لها: «إنَّ طلب الزيات صاحب “الرسالة” منك كتابة مقدمة لكتابه أكبر من أي دكتوراه. إنني لو سُئلتُ أمنية في حياتي لتمنيتُ أن يطلب منّي الزيات مثل هذا الطلب». ويعلِّق قائد: «كتابة مقدمة للزيات أمنية الأديب».

وقد تيسَّر للدكتور قائد بفضل الله وتوفيقه أن جمع للعقاد 99 مقدمة، اجتمعت لديه على مَرِّ السنين بطول التفتيش والنظر في الفهارس واستعراض المكتبات في الحلِّ والترحال داخل المملكة وخارجها.

وقد أرهقه الحصول على بعض المقدمات، لندرة كتبها وعدم إعادة طباعتها، فلم يجد «شعاب قلب» للزحلاوي و«ديوان الكاظمي» إلا في بعض المكتبات الخاصة بمركز جمعة الماجد، ولم يستطِع تصوير مقدمة «هواتف وأحلام» لطاهر الجبلاوي إلا من مكتبة الأزهر، وزوَّدته حفيدته بصورة باهتة غير واضحة من نسخة مصوَّرة للكتاب. لكن كان من وراء ذلك لطائف أخرى، فديوان الكاظمي مثلًا الذي عثر عليه قائد في مكتبة الدكتور جميل صليبا الخاصة، وصوَّر له مقدمته الشيخ عادل العوضي، عثر قائد على تعليق للدكتور جميل قد كتبه بقلمه على مقدمة العقاد، يقول: «العقاد كثير الغرور بنفسه، والغرور طبعٌ منافٍ للعلم».


قصص روسية لمحمد السباعي

لفت نظري في هذه المقدمات تطوُّر لغة العقاد من الفصاحة وجزالة الألفاظ إلى لغة الصحافة في نهاية حياته، ورأيت في بعض تلك المقدمات شذرات ذاتية عالية القيمة، يبثها الكاتب بين السطور يحكي فيها ذكرياته مع الشخص الذي يكتب عنه المقدمة، انتقيت لك أمثلة لها، وهي أمتع من سيرتيه «أنا» و«حياة قلم»، فأنا أصنف سيرته من النوع البارد.

عندما كتب العقاد مقدمة لكتاب محمد السباعي مترجِم كتاب الأبطال، عاد وتذكَّر أوائل عهده بالكتابة في الصحافة، تلك الأيام التي كان فيها محمد السباعي يكتب في «الجريدة» وكان العقاد يكتب في «الدستور»، وكانا يتلاقيان الحين بعد الحين ويتحدثان عما يقرآن وما ينويان أن يكتباه، ويستمع العقاد إلى طرائف السباعي وفكاهاته التي يرتجلها ولا ينضب معينه منها.

ومما لا ينساه العقاد من ذكريات ذلك العهد النَّضِر أنه زار حلوان -وكان يسكنها السباعي يومئذ- فسأل عنه، فلم يعرفه أحدٌ إلا حين وصفه العقاد لبعض الباعة بأنه «الرجل الذي يتأبط الكتب حيث سار»، فقالوا: «نعم، نعم، عرفناه»! ووصل العقاد إلى منزل السباعي فوجده فيه، ووجد في حجرة الاستقبال كتبًا وعودًا وقانونًا موسيقيَّين، والسباعي يوقِّع بعض الألحان ويناقش فيها بعض أبناء الصناعة، فقال له العقاد: «الآن أعرف سرَّ غرامك بالإيقاع والجرس المقبول في فواصل الكلام»، فقال السباعي: «إنني لا أتمنى شيئًا كما أتمنى ما يسمِّيه الموسيقيون “إصبعًا حلوة” في تناول القلم وتناول الريشة، لأن تعبيرهم هذا بـ”الإصبع الحلوة” هو خيرٌ من تعبير البلغاء بـ”نفس الشاعر” أو الكاتب في صوغ الأبيات وتنسيق العبارات».

‫كان مع العقاد في هذه الزيارة «ديوان هيني»، الشاعر الألماني الساخر، ومجموعةٌ من الحكايات لدوستويفسكي، الكاتب الروسي، فأخذ السباعي يقلب فيها لحظةً وهو منقطعٌ عن التحدُّث إلى العقاد، فأما «هيني» فلم يبدُ في تلك الجلسة أنه أُعجب به كثيرًا، وأما دوستويفسكي فقد وافقه وأرضاه، وقال للعقاد إنه يودُّ لو نقل إلى العربية روايةً من رواياته الكبيرة أو الصغيرة، وإنه يعجبُ أن يكون من هؤلاء الروسيين من ينبغ ذلك النبوغ ويجيد تلك الإجادة.

استخلص العقاد من كلامه أنه عُنِي بهذه الناحية الروسية من أدب أوروبا في أواسط القرن التاسع عشر، ولكنه لا يريد أن يشغله هؤلاء الروس عن قراءة بيرون وديكنز ولي هنت وهازليت وكارليل، وكانوا أحبَّ أدباء الإنجليز إليه، ودار في خلد العقاد أنه مشغولٌ بهؤلاء الروس لا محالة يومًا من الأيام، والطريف أن السباعي ترجم لهؤلاء لكنه وضع أبياتًا شعرية عربية على ألسنة أبطال الروايات الروسية.

وأعجبني قول العقاد: «ولقد صحَّ في شاعرنا المهذَّب عزيز أباظة ما صحَّ في لورد بيرون حيث كان يقول: “نهضتُ من فراشي ذات صباح فألفيتني مشهورًا”، فلم يعرف الراصدون هذا الكوكب إلا وهو في برجه الأسنى، قد جاوز جانبي الأفق وأصعَدَ في سَمْت السماء» سبحان الله! مَن يذكر عزيز أباظة هذه الأيام؟! يبدو أن للشهرة الأدبية تاريخَ صلاحية محددًا.

وفي تقديم العقاد لكتاب صالح جودت عن إبراهيم ناجي، لا يعتذر عن قسوته في نقد شعر إبراهيم ناجي ويلحقه مع طبقة الشعراء الظرفاء، مع ابن الأحنف، وابن سهل، والبهاء زهير، وإخوانهم من شعراء «يتيمة الدهر» و«نفح الطيب»، «نعرفهم بسيماهم في كل عصرٍ وفي كل بلد، ويجمعهم لنا عنوان الظّرف حيث كانوا بين مدارس عصورهم، فلا تخال أننا نتلقى ديوانًا غير ديوان ناجي في هذا العصر إذا دعونا بديوان الشاعر الظريف!».


سبحات خيال علي الجارم

و‫في تقديم العقاد لـ«سبحات الخيال» لعلي الجارم يقصُّ طرفًا من شخصية الجارم الأدبية. فقد كان علي الجارم زينة المجالس، كما كان يقال في وصف الظرفاء من أدباء الحضارتين العباسية والأندلسية، تجلسُ إليه فتسمع ما شئتَ من نادرة أدبية، أو مُلْحَة اجتماعية، أو شاهد من شواهد اللغة، أو نكتة من نكت الفكاهة، ولا تدري كلما تهيَّأ للكلام ماذا أنت سامعٌ بعد هُنَيهة، فقد تترقب النكتة فتسمع الفائدة، وقد تسأل عن الشاهد فتسمع «القافية» التي لا تَعْذر كما يقول أبناء البلد كلما عرضت المناسبة لـ«قَفشة» من القفشات لا تُهْمَل في سياقها، ولكنك واثقٌ في النهاية بأنك خرجتَ بفصل ممتع من طراز فصول «العقد» أو «الكامل» أو «نفح الطيب»، وأنك لو اخترتَ الحديث واقترحتَه لما ظفرتَ بخيرٍ مما استوفيتَه عفوَ الخاطر بغير سؤال.


مي زيادة وعقدة الاضطهاد

تأتي مقدمات العقاد على ذكر مي زيادة عند حديثه عن كتاب «الساعات الأخيرة» لطاهر الطناحي، وهو كتاب طريف وفريد في بابه، إذ يهتم بالأيام الأخيرة لطائفة من الأعلام، ويركز على لحظات فراق الدنيا، وهنا يقتبس العقاد من مخزونه الثقافي الكبير كلمة لأحد النقاد.

يقول العقاد: «ولست أذكر أنَّ قلمًا جرى في تهوين خوف الموت بأبلغ من كلام الأديب الكبير وليام هازليت إذ يقول: “لعل العلاج الأمثل لخوف الموت أن نذكر أن الحياة لها بداية كما لها نهاية، وأنه كان بالأمس زمن لم نكن فيه، فلماذا يشغلنا إذًا أن يجيء زمن لا نكون فيه؟!”… ‫إلى أن يقول: “ما أجد في نفسي رغبة أنني كنت حيًّا على عهد الملكة آن قبل مئة سنة، فما بالي أهتمُّ بأن أكون حيًّا بعد مئة سنة في عهد من لا أدري ما اسمه من الملوك أو الملكات؟!”».

والحديث عن مي زيادة يستدعي شهادة سلامة موسى عنها، إذ يقول: «قعدنا نتحدث فروَت لنا مي كيف خطفوها من القاهرة إلى مارستان العصفورية في لبنان، وكيف كانوا يتربصون بها على مقهى قريب في الشارع القريب من منزلها، ثم شرحَت لنا ما كابدته من عذاب في هذا المارستان، وجعلت تلومني لأني لم أسأل عنها. وتدفقت دموعها كما لو كانت ميازيب. وجرى بكاؤها في تشنج كأنها كانت تَلْتَذُّهُ. ثم هدأت وأشعلت سيجارة، وجعلت تدخن وتنفخ دخانها علَيَّ مُداعِبةً لأني أكره الدخان. وهنا استولى عليها طرب، فشرعت تضحك في إسراف يزيد على إسرافها في البكاء.

وكانت تتشنج بالضحك كما كانت تتشنج بالبكاء. وتكرر هذا منها، ضحك، فبكاء، ثم ضحك، فبكاء، مع إسراف في الاثنين. وسهلٌ علَيَّ الوقوف على علَّتها. هي مانيا، أي ذلك الجنون الذي يقع بكثير من الانبساطيين ذوي الوجوه المستديرة».

هكذا وصف سلامة موسى في سيرته الذاتية «تربية سلامة موسى» محنة مي زيادة -معبودة الأدباء في عصرها- بعد أن خرجت من مستشفى العصفورية للأمراض النفسية والعقلية في لبنان، وكانت قد أُودعت فيه لأسباب ما زالت حتى الآن غامضة، هل كانت مريضة حقًّا؟ أم كان أقاربها يطمعون في الحجر عليها للاستيلاء على ميراثها؟

وهنا موضع استشهادنا بكلام العقاد في إحدى المقدمات في الكتاب الذي يرى نفس الرأي عن حالة مي زيادة. يقول العقاد عن مي زيادة والشيخ توفيق البكري: «أصيب كلاهما في أخريات أيامه بوسواس الاضطهاد، ونزل كلاهما زمنًا بمستشفى العصفورية في لبنان، وبدأت المأساة عندهما بصدمة مزعجة سبقتها صدمات، ثم استحكمت جميعها حتى استعصى فيها العلاج».

ويمضى سلامة موسى يكمل روايته قائلًا: «دعتني الظروف إلى الاغتراب عن القاهرة نحو شهر. فلما عُدت قرأت نعيها في الصحف. سبعة أو ثمانية سطور في عمود الوَفَيَات هي كل ما بقي عن مي بعد موتها. وعرفت بعد ذلك أن مرضها قد تفاقم».

يرى سلامة موسى أنها -بكل مزاياها- كانت كاتبة بلا قضية، أدبها أدب الحلاوة والطرافة والجملة الناعمة، ولكنه ليس أدب المذهب والمبدأ والكفاح.

كانت هاوية تبحث عن المعنى الأنيق والكلمة الحلوة، ولم تلتزم أي قضية (كالدعوة إلى حرية المرأة في مصر أو إلى المذهب الاشتراكي) في رأي سلامة موسى، والحديث له: «كان يمكن أن تمنح حياتها معنى، وتصونها بعد أن ولى شبابها وجمالها من هاوية الانهيار العصبي، أدبها -في كلمة- هو أدب الصالون، لا أدب الكفاح».

يردّ الناقد ماهر شفيق فريد في كتابه «قراءات شتى» بقوله: «لسنا ملزمين قبول وجهة نظر سلامة موسى هذه، كما لا حاجة بنا إلى أن نقول صادرة من موقفه الأيديولوجي الخاص، ولكن يبدو أن فيها قسطًا كبيرًا من الحقيقة. لقد ضاعَف من أزمة مي أنها امرأة شرقية، وأنها تنتمى إلى أقلية مسيحية، وأنها عاشت في عصر تحكمه العقلية الأبوية الذكورية، وحين ذبل جمالها، وانصرف المعجبون عنها، لم يبقَ أمامها إلا أن تنهار».

وفى المكتبة العربية أكثر من ثلاثين كتابًا كاملًا عنها، وعشرات المقالات والفصول والدراسات المنتشرة في تضاعيف الكتب والدوريات والصحف، ورسائل جامعية باللغة العربية واللغة الإنجليزية وغيرهما من اللغات.


صداقة العقاد والمازني

تشير أكثر من مقدمة للعقاد عن صداقته للمازني، فقد عرفه نحو نيفٍ وثلاثين سنة، أي منذ جيل كامل في عصر النهضة الحديثة، وقعت فيه حربان عالميَّتان، وشجرت فيه حروب لا عِداد لها في ميادين الأدب والثقافة والسياسة، ولم يكن العقاد والمازني في تلك الميادين على انتماءٍ دائم إلى صفٍّ واحد.

لخَّص العقاد علاقته بالمازني بقوله: «ولكنني راضٍ ومغتبطٌ بأن أقول: إنه كان لسماحته وحُسن تقدير الفوارق بين اختلاف الآراء، واختلاف العقول والطباع، فضلٌ مشكور في بقاء هذه الصداقة التي أعزُّها وأعتزُّ بها، ويسرُّني أن تصبح من الصداقات النادرة في تاريخ الآداب العربية الحديثة».

كانا يقرآن شعر ابن الرومي معًا، ويقرآن وليام هازليت ناقد الإنجليز الأكبر ويرفعانه مكانًا عليًّا فوق زمرة النقَّاد العالميين، ولا يسمعان بشاعر أو كاتب من أعلام الأدب والفكر في اللغات الأجنبية إلا ذهبا يلاحقانه ويطاردانه في كل ما يصل إليهما من كتبه، ثم يقتسمان نصيبهما منه بالمذاكرة والمشاورة، كما يقتسمانه بالمنازعة والمشاجرة في أحايين.

‏ويذكر العقاد شهادة مهمة عن صديقه المازني وقدرته العالية على سرعة الترجمة، فقد كان المازني يعلِّم دروس التاريخ في المدارس الثانوية، وكان تعليمها بالعربية حديثًا، وكتبها المقرَّرة لا تُغني عن المراجعة والتلخيص من المصادر الكبرى الأجنبية، وكان وقت المعلِّم مزدحمًا بالحصص في اليوم الواحد.

رأى العقاد المازني يجلس إلى مكتبه أمامه المرجع الإنجليزيُّ الضخم في مجلدٍ أو مجلدات، وفي يده القلم، فينظر إلى المجلد، ويترجم ما يقرؤه فيه، ويلخِّصه لنفسه، ويكتبه بالعربية الفصحى، ويرسله إلى المطبعة في وقتٍ واحد، فإذا هو بعد هنيهةٍ مذكراتٌ وافيةٌ موزَّعةٌ على التلاميذ.

‫وكان زميلهما الفاضل الأستاذ فريد أبو حديد يذكر هذا كما يذكره العقاد، لأنه كان صاحب المكتب الذي يواجه المازني، وكان العقاد صاحب المكتب الذي يليه.


الموقف من العقاد

بعد هذه الأمثلة من آراء العقاد الذاتية في مقدماته، أقول إنَّ العقاد واحد من أكبر القراء في عصرنا، ومقدماته تشهد بذلك، تجاوزته المعارف والعلوم الاجتماعية والإنسانية بكتابات ودراسات متخصصة في مجالات معرفية منوعة خاض فيها، لكنه كان رائدًا من كبار الرواد في العربية، في تعريف القارئ العربي بمذاهب أدبية وأفكار نقدية ومدارس فكرية جديدة، وله مسارات منوعة في حياته، مثل خطه السياسي بين اليمين واليسار، ومعاركه الأدبية الطاحنة، وثقافته العريضة الشاملة.

كلَّما مرَّت الأيام نازعَني شعوران: الزهد في نتاجه، واكتشاف ثغرات نفسية وخلقية ومعرفية. وتنخدش صورة الكاتب الجبار المثالية كلما قرأت عنه في مذكرات من عاصروه، وآخر هذه الندبات قصة ابنته السرية التي حكى عنها كمال النجمي في كتابه «القلم والأسلاك الشائكة»، لكن العقاد يبقى تجربة عالية منقطعة في عيش ساعاته بين الكتب، وصالونه الثقافي العتيد الذي خرجت منه الأساطير، هذا الصالون البسيط الذي جعل منه أنيس منصور مسرحًا لنقاشات فكرية منوعة.

العودة إلى مقدمات العقاد هي عودة لكتابة أصيلة، وتعريف بكتب نسيها الناس، وأعلام غفلوا عن قراءة أدبهم، وصلة رحم بالتطوّر الفكري والأدبي لواحد من أشهَر كُتّاب القرن الماضي، فكما يقول ماهر شفيق فريد في كتابه «هوامش ثقافية»: «على بوابات الأدب المصري، بل العربي، في النصف الأول من القرن العشرين يقوم أديبان شامخان كأسدَي كوبري قصر النيل رسوخًا وجلالًا: طه حسين العظيم، والعقاد الأكثر عظَمة».

شارك

مقالات ذات صلة