ليست القضية أن نحشو العقول بالمعلومات، أو نثقل الأذهان بالوقائع، ولا أن نحفظ أسماء الغزوات ثم نُسلّم بأن أبناءنا قد وعوا أمتهم. المسألة أعمق من ذلك. نحن بحاجة إلى مشروع يُربّي لا يُلقّن، يُوقظ لا يُكرّر، يعيد تشكيل المفردة في وعي الأجيال: أن تكون الأمة شيئًا يُعاش لا شيئًا يُلقّن.
من هنا تبدأ الفكرة: أن نُقيم حاضنة للتفكير، لا وصاية فيها ولا تسطيح، وإنما حرية وانتماء، عمق وانطلاق. حاضنة لا تصنع الأجوبة بقدر ما تولّد الأسئلة. تُدرّب الفتى على أن يُمعن النظر، أن يبحث، أن يربط بين الأندلس وغزة، بين القوقاز والملاحم، بين فلسطين وتاريخ الاستعمار، بين العدالة ومقاصد الشريعة. تُعلّمه أن يقرأ في سيرة أبي ذر الغفاري، وابن تيمية، وابن باديس، والشيخ أحمد ياسين، وحسن البنا، ومحمد الفاتح، وأن يدرك أن القدوات تنوعت مدارسهم، لكنهم حملوا الهمّ ذاته، وصنعوا الوعي ذاته، وطرقوا أبواب التغيير ولو اختلفت أدواتهم.
الحاضنة ليست مشروعًا مدرسيًا محدود الأفق، ولا ندوة فكرية تقليدية، بل هي بيئة حية، تتحرك فيها الفكرة كما تتحرك الروح في الجسد، تخرج من ذهن طفل في الكويت لتستقر في عقل شاب بمالي، وتنتقل من مربٍّ في جاكرتا لتلهم فتىً في سراييفو، وتُبثّ من منصة في تونس فتوقظ ضميرًا في لندن.
إن الإبداع لا يتولد في الصمت، بل في الحوار. في الاحتكاك. في صدام الرؤى وتلاقح الفهوم. لهذا، فإن من أعظم أدوات هذه الحاضنة أن تتيح للأفكار أن تتلاقى، وللجنسيات أن تتحاور، وللأعراق أن تُدلي بما عندها. حين يجلس الشاب العربي إلى جوار زميله التركي، ويتحاور المسلم الإفريقي مع شقيقه من شرق آسيا، وتنشأ بينهما فكرة لم تولد من فكر أحدهما منفردًا، بل من عبق التلاقي ومن رائحة التنوع… هنا تبدأ الأمة.
إن الحاضنات الإبداعية يجب أن تكون كالأسواق الفكرية في عصور الحضارة الإسلامية، حين كان الفقيه يجالس الفلكي، والمجاهد يحاور الشاعر، والمحدث يصغي للفيلسوف، فيخرج من ذلك الاجتماع رأيٌ لم يكن ليوجد في بيئة مغلقة. فكما أن الطبيعة لا تُخرج أزهى ألوانها إلا حين تختلط الأتربة وتتعدد المناخات، فإن الفكر لا يُثمر إلا حين يخرج من دوائر التكرار المغلقة إلى فضاءات التداول المفتوحة.
نحن لا نريد حاضنة “تُخرّج متشابهين”، بل تُخرّج المختلفين بوحدة الهدف. نريدها أن تُربّي على حب الأمة، لا على نسخ القوالب. أن تُحرّك في الشاب عقله قبل حنجرته، وتُعلّمه أن النصرة لا تكون بالصراخ فقط، بل بالفكرة، وبالصبر، وببناء البديل.
وحين نريد قياس أثر هذه الحاضنة، فلن نقيس بعدد الكلمات التي حُفظت، بل بعدد القلوب التي انتفضت، والعقول التي بدأت تسأل، والمبادرات التي انطلقت. ستُقاس حين نسمع فتىً في البوسنة يتحدث عن حق العودة، أو شابة في أستراليا تصوغ حملة رقمية لغزة، أو طفل في عمان يرفع لافتة لفلسطين في معرض الرسم.
أمتنا اليوم ليست بحاجة إلى “نسخ مكررة”، بل إلى نُخب واعية تُتقن لغة العصر، تُجيد صياغة خطابها، تعرف كيف تتحدث مع العالم لا أن تصرخ في وجهه. وهذه مهمة الحاضنة، أن تُنضج العقل، وتُصقل الإبداع، وتفتح بابًا للنقاش لا يُغلق.
قد يبدو المشروع حالِمًا، لكنه والله حق، وقد سبقتنا إليه أجيال صنعت المعجزات بلا ضوء، فقط لأنهم آمنوا. فإن كان حسن البنا قد بدأ من مسجد صغير، فعبد الكريم الخطابي من ساحة مقاومة، ومحمد الفاتح من مدرسة السلطنة، وكلهم انطلقوا من سؤال واحد: كيف نُعيد لهذه الأمة عقلها، وكيف نحول الفكرة إلى حضارة؟
نبدأ من الطفل الذي يسأل عن الأمة، من الفتاة التي تنشد العدالة، من المعلم الذي يربط ما بين الآية والواقع، من المسجد الذي يُربّي أكثر مما يُكرّر، من الشاشات التي تطرح لا التي تُلقّن. نبدأ حين نُدرك أن الأمة لا تُبنى في الحشود، بل في العقول. وأن الأمة التي تفكر… لا تُهزم.