مقالات سوريا

عن سيكولوجيّة ليلة السقوط

مارس 30, 2025

عن سيكولوجيّة ليلة السقوط

  محمد داغش   في عالم يسوده الخيال، تأبى الحقيقة إلا أن تجد من يصدقها. لتعود بضربة تعصف بنا بهتة، وتنفض الأرض من تحتنا كما تنفض حصيرة بحجم البلاد، يطير الغبار منها كاشفًا عن ذاتها. وقبل أن نعتاد على عناوين الأخبار الجديدة ويشوبها شائبة التحول والامتعاض والخوف والبيانات والعقوبات ومصافحات الأيدي، لا بدَّ أن نعود إلى تلك الليلة التي كشفت عن مشاعرنا المكبوتة والمخبأة في رقابنا وظهورنا وذاكرتنا العميقة.    انتصرت الثورة السورية بإسقاط نظام الأسد فجر الأحد الثامن من كانون الأول لعام 2024، عندما أذيعت ديباجة خلعه في المحطات والمآذن والأرصفة بذلٍ وإهانة. تلك الليلة تحديدًا، التي -وفي ظني- لم تنطفئ فيها عينٌ لأحد، جاءت مصحوبة بأنواع من الشعور الذي يتملّك الإنسان في غرائزه وتصوّراته ودواخله، وصُبّت عليه دفعة واحدة في لحظة أفشلت كل محاولات ذكائنا العاطفي لاحتوائها وممارستها قبلاً حين ترددت منتشية بالخوف والفرح، تذرف الماء والثلج، صاخبة صامتة، أعادتنا إلى الله بسجدة أثقلت الأرض -الشاهد على ذلك كله- كأنها القيامة الأرض ذاتها التي بسطوا فوقها كفناً ورصّوا تماثيلهم أوتادًا ليحجبوا النور عن خريطة من معتقلات ومقابر جماعية، دفنوا فيها ذاكرة وأحلام الذين آلمنا غيابهم وتعذيبهم وإذابتهم، كما آلمنا أنين آبائهم في تربصهم عند الأبواب والفتحات وفوق سجلات المعتقلين، وأمام شواطئ العالم التي يأملون خلسة ألّا يجدوا حقيبة تطفو وحدها فتغرقهم.    شريط ذاكرتنا العميق الطويل يأخذنا إلى بداية البدايات، في ليلة التشفي من عبثية الإجرام التي عاثها الأسد ونظامه العفن، وأتباعه المهرجون منذ درعا، المظاهرة الأولى، أذان الحيطان، الرصاصة الأولى، الشهيد الأول، يوم الجمعة، أصدقاؤنا، ليالي الرعب، الأفرع الأمنية، القذيفة الأولى، باص الأمن، شاهد العيان، أغنية “يا حيف”، اللاجئ الأول، دبابة، أسلحة كيميائية، الخيمة الأولى وصولاً إلى مرطبات بشار التي رفض أن يشربها مع أردوغان ليُسممه بها بوتين، بعد أن فر إليه متلهفًا بخزينة دولة متهالكة متصدعة، تاركًا وراءه إرث عائلة بصقها التاريخ وبعض من انتفضوا يتلكؤون بحثًا عن أبجديات ومخارج تسعف حالهم بعد فضحهم أمام حقيقة عارية مع بضعة “كلاسين” ليغطوا بها رؤوسهم.    هذه الليلة استثناء، نحبها، ننتصر بها على العالم الذي عرقل وصولها ألف مرة من عمر الثورة، نضعها في زجاجة، نمسح عليها، نعود إليها كلما إشتد بنا الحال ونذكر أنفسنا بأنّا أحياء ولو مات كل شيء فينا.
شارك

مقالات ذات صلة