آراء
في رواية مزرعة الحيوان لجورج أورويل، أحدثت الخنازير فرقا، استمعت لحلم العجوز “ميجور”، وحلمت هي الأخرى بعالمه المثالي، ثم نجحت في طرد السيد جونز من حظيرته، عفوًا حظيرتها، وبعدها تناوشت فيما بينها، لا بأس، وبعدها تزايد ترف الخنازير، لا بأس، وبئست حال سائر الحيوانات، ثم دُعي البشر إلى المزرعة كزائرين لا أكثر، بينما لا يستطيع أحد تمييز الخنزير من الإنسان، وذلك يعني تفوق الخنزير على الإنسان، حيث ارتقى هو درجة بينما هوى الإنسان إلى قاع الخليقة، فاستطاع “الحلوف” أن يطرد المالك من ملكيته، بسبب تلك الأنانية البشرية، التي يظن بها المرء أنه يملك الدنيا له وحده، وأن حريقا في بيت جاره لن يعنيه في شيء، والحيوان -خاصةً لو كان خنزيرًا- فإنه قد يحلم بما هو أبعد من الوحل والقمامة، حيث يُطعمهما -بالأوَنطة- لمن يظن نفسه أذكى منه، والحقيقية أن الخنزير ليس بهذه الفطنة، كما ليس بسيدٍ في قومه، لكن سيَّد قومه المتغابي.
ذلك الخنزير الطموح، لم يكن العرب بفطنته المتواضعة، ولا بطموحه الجامح، ولا بشيء بينهما، أمر جلل غير عادي، قد يمكِّن الإنسان النبيل من طرد الخنازير من فناء منزله، وتطهير بيته من روث الخنانيص، وتزكية ترابه بعد تدنيس طويل، لكنه على العكس، أسلم الوحيدَ الذي حاول التطهير إلى هؤلاء القذرين، بل ونظّروا عليه بما حفظوا من حكم مبتذلة، من قبيل “لا تصارع خنزيرًا في الوحل”، فيقول لهم: يا سادة، يا حمقى، ذلك طين أرضي، كيف أخشى أن يلوث طرف ثوبي؟ وحتى ولو كان وحلا، فإن هذا الوحل لي، أما عن مصارعة الخنازير، فهاأنا أحدث البهائم، ولم تنبت لي قرون؛ هذه نقرة، وتلك نقرة.
لم يستمع العرب، لم يستمع الحكام، لم تصغِ الأنظمة، كانت فرصةً تاريخية لفعل كل شيء، فلم يفعل أحدٌ أي شيء، وبقيت غزة، الغزالة النادرة، بعيدا عن المجاز، الرشيقة الماهرة، والضحية المسفوكة دماؤها، تحاول أن تستنهض الأسود فنهشوها، ووجدت فطرتهم منتكسة، فلا يهاجمون القطعان التي تهدد وجودهم، ولا يفترسون الحيوان الذي يهدد بقاءهم، وإنما بدلا من ذلك فإنهم ينفردون بالضحية، مقدمين روحها وبدنها وأرضها قربانا ليرضى آلهة القطعان: وعاء من دم الغزال!
وما زالت غزة تتفصد دما، وإخوتها يشاهدون في صمتٍ مخزٍ، البعض للأمانة يحاول الحركة، يريدها، تأكله قدماه ويداه، يبكي دما، ولكن لا تسعفه النية وحدها، والحدود مغلقة بمتاريس وأسوار، والطريق إلى رفح مليء بالكمائن والأصفاد، وإن لم يكن مبررا لأي منا، فإنها حجة العاجز البليد، الذي يظن جهاده على سجادة المسجد أولى من جهاده خارجه، والذي لا يجد مع ذلك سبيلا سوى محرابه، بدلا من حربته، راميا بسهم دعائه وماله بدلا من سهم قوسه، ومستخدما قلمه الرصاص بدلا من بارودته الرصاص، ليتحول العجز إلى تسليم، والخذلان إلى عادة، والركون إلى مساحة آمنة، والجميع يشاهد في صمتٍ مخزٍ.. حتى…
حتى حدثت المعجزة! الله أكبر! جاء القصاص، وتحقق الوعد، وهاهو الانتقام المنتظر، حيوان يدعى أنثى الوشق، من القطط البرية، انطوائي، حذر، يقرر فجأة التخلي عن طبيعته، ويخترق الحدود، ثم يهاجم جنودًا في قاعدة داخل الأراضي المحتلة من الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، قبالة سيناء، يا إلهي! أي خبر ذا؟ وأي احتفال مصري فرعوني يجب أن نقيمه لذلك البطل الجديد، أمة تحتاج إلى مخلِّص حتى ولو كان حيوانا! أمة مستعدة أن تعيِّن أسطورة ولو كان قطة! أمة بملياري “إنسان” تنصب “الحيوان” ملكا! والحيوان براء من تلك “الحيوانية” الدنيئة، التي لم يصلوا إليها في صحاري الأرض وغابات الاستواء.
لو كان لدى الحيوان هاتف ذكي، يستطيع فتح فيسبوك وتويتر وإنستجرام، وتصفح منصات التواصل في أوقات القيلولة اليومية والسبات الموسمي، لدهش من تلك الصدفة، ربما سيستغل ذلك في تحقيق مشاهدات تجلب له علفه لسنوات للأمام، سيستضيفونه في “قصر الكبابجي”، ويلتقطون معه الصور في “مدفع رمضان”، ويمنحونه “الإقامة الذهبية” في الإمارات، ويجعلونه يجرب “الموكوسة” في مطعم “بلبن”، ثم حين يؤمن ما يكفي من غذائه سينظر من الأعلى، إلى تلك الأمة المحتفية به، ويبصق بصقة أكبر من نهر النيل، ويقول حكمةً بتصرف: “لا تصنعوا من الحمقى جماهير”.
إلى تلك الدرجة بلغ عجز الأمة، ليست غثاءً كغثاء السيل -على ما فيها من خير سيأتي سيأتي-، ولا زبد كزبد البحر، وإنما أقل من مريدين لحيوان، تخيل الأمواج تعبد سمكة، تخيل السيل يحتفي بصخرة، نحن أسوأ من ذلك الذي تنبأ به النبي في الحديث الشريف، وذلك ليس لأن الخيرية انتزعت منا، ولكن لأن الشر كلفته أقل، والركون راحته أكبر، ويا دار ما دخلك شر، ولا نخوة بعد الشر.
فمتى نتحرك من تلك الغوغائية المضنية، ومتى ترى الأمة من الأمة خيرا، ومتى تجد غزة وأخواتها منا ما يسرها، ومتى يتحول البشر صدفةً إلى قطيع من الوشق، فيأتون فعله، أو يفيقون من الوهم وإلى حقيقتهم، ويدركون أن ما فعله الحيوان أقل بكثير، مما خلقوا من أجله، “ولقد كرمنا بني آدم”.. فلماذا يصر البني آدم على تهزيء نفسه، ودخول التاريخ من أحط أبوابه؟ الخير فينا، والأمة لم تعدَم أسدها حتى نتوج بالملك قطة، ولا أن تكون أقصى أحلامنا عيش النعاج، ولا أقصى أفعالنا نقنقة الدجاج.