تجارب
أمام العناية المركّزة بالمشفى، وعلى السلالم وفي المدخل وقف العشرات ينتظرون لحظة الزيارة، التي لم تدم لأكثر من دقيقتين لكل زائر لامتداد الطابور ولهفة المحبّين وتتابع الزوّار
وقفتُ على الباب لأنظّم الدخول ولم أرهُ إلا آخرًا، وفي ذهني فكرةٌ واحدة : لم يضع ما فعله بطول عمره هباءً.
وهي ذات الجملة التي قالها وكتبها بعد تماثله للشفاء وهو يتابع مظاهرات الحبّ والدعاء والقلق من أصدقاء عمره كما ممن لا يعرفهم لكنّهم يعتبرونه صديقهم أو أستاذهم أو أباهم الذي علّمهم التفاؤل، وشاركهم كلّ لحظات حياتهم انتصارًا وانكسارًا، بذات المحبّة والأمل والصدق والتواضع.
“زين العابدين فؤاد” -أو عمّو زين، كما نناديه- مثّل هذه الأيقونة الإنسانيّة في حياة أجيالٍ متعاقبة، وما زال، تمامًا كما مثّل أيقونةً إبداعيّة خالدة بـ “مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر” و ” الفلاحين” ومئات القصائد البديعة ( والتي كان من حظي قصيدة منها كتبها لي وأنا في المعتقل ) .
في الوقت الذي كنتُ وقصائدي مُصادرين لدى جهات أمنية، قرر عمّو زين أخذ نسخ الديوان -كيرلي- المتاحة ليوزّعها على زملاء وقرّاء وجمهور.
مصادرة الديوان ومنعه أحبطوني-في السجن- لدرجة التوقف عن الكتابة لقرابة سنة “لماذا ستكتب؟ ولمن؟ إذا كان المنع هو المصير؟”
لكنّه أعادني للكتابة، بفضل ما فعله، مع ديواني كما معي (أردّد دائمًا حين أُسأل عن سرّ علاقتي به: آمن بي حين كفر بي الناس، وصدّقني حين كّذبوني، وآواني حين طردوني)
هذا النصّ كتبته في المعتقل 2023م عن الكتابة والشعر و”عمّو زين”:-
أكتب هنا مضطرًّا،تخلّصًا من احتقانٍ يكاد يخنقني أو يشظّيني
كقضاء حاجةٍ بعد طول انضغاطٍ أكتب، كاستمناءٍ عجولٍ بعد طول سهاد
لا ارتياح ولا تمهّل، كذلك لا مراجعة ولا تعديل ولا إعادة نظر
أُلقي به خارجي على ما هو عليه”أوووووعّ” أقيء ما في نفسي دفقةً واحدةً عسى أتخفّف ولو قليلاً،عسى أفسح في نفسي حيّزًا أعرف أنّه سيستقبل احتقانًا آخر يزحمه بعد لحيظات.
قلِقًا أفعل،متوتّرًا وحزينًا(ذلك الحزن النشط اللحوح الزنّان)
-لمن تكتب؟ لا لنفسك؛توقّف عن المراوغة،بل لآخرين تفعل وإلا لما حاولت وحاولت تحايلاً أو مواجهة،ليعبر كلامك إلى الجانب الآخر من السور.
لماذا تكتب؟ لن تهدأ بل سيزيد ثقل همّك. لن تغيّر العالم، بل سيسير إلى حتفه غير عابيء بك وبما تقول.
لن تحرّرك الكتابة، بل ستورّطك أكثر وتزيد سجنيّتك طولاً وقساوة بعقوبات على عدم الرضوخ والإصرار على الفعل، وعقوبات على الصدى -إن وقع- أشدّ وأوجع.
هذا فعل ضرورة. قسر كالسجن والفقد والغياب
وأنت غير قادر على اختياره برغبةٍ كمريد، أو أدائه بانضباطٍ كمحترف، وغير قادر حتى على تجنّبه بإرادةٍ كحرّ “أليست الحريّة أصلاً في عدم فعل ما لا ترغب فيه؟”
هو ليس جوعًا تسدّ عضّته بمائدة تلبيه. ليس ألمًا تسكنه بقرص دواء. ولا ورمًا تستأصله بجراحة جسم.
تلكّك كيف شئت بغياب الطقوسيّة تلك حجّة البليد
بغياب المزاج الرائق أليس هو “ابن الأسى والألم”
أو بموانعهم وروادعهم في هذه ترضخ؟ إخص.
-من سيقرأ؟ ومن سيهتم؟ يُلحّ السؤال منك عليك
دعك من التفتيش حين لا تجد أحدًا؛ افعل لنفسك واجبرهم على الالتفات وحسن الإنصات.
…
في وقتٍ انقطع الكلّ عني -أسبابًا وبشرًا- احتجتُ ما يُثبت أنّي حيٌّ لم أزل. احتجت أن أذكّرهم (من هم؟) أنّي منحشرٌ هنا لم أزل. احتجتُ لأردّ شيئًا من الصفعات المتتاليات. واحتجتُ كذلك لنقود تخفّف وطأة الحصار(أضحك كلّما تذكّرتُ تصوّراتي عن النشر وتعاقداته وفلوسه).
لا أملك إلا نفسي وحرفي-كنتُ ومازلت، والحرفُ بحاجةٍ لـ:
أن يُكتب كما يليق
(لم أرَ حرفًا كتبته لائقًا.. في أيّ وقت)
أن يخرج من هنا والأسرة وأنا نتعرّض كلّ زيارة لمثل ما يتعرّض له الكمبرليت لتخليص جزيئات الماس من طينه وصخره وزرقته؛كي لا يفلت مثقال ذرّة من حرف)
أن يقرأ علّه يقاوم نسيانك هنا حتى التحلّل، ويهزم مراد السجن وصاحبه منك بأن تخرس.
تتعقّد الحسبة مع كلّ إمعان ونظر
والتجربة الأولى جاءت محبطة
لم يتحمّس أحد: سبق وتمنيت أن يحملها أحدٌ بصوته أو بيديه فينقلها للناس فتُسمع وتُرى.. الآن ستقنع نفسك بأنها القبضة الأمنيّة والتهديدات، وتتجاهل عدم الاستحقاق كاحتمال آخر.
لم يسعَ أحد: إذا كانت الأسرة خافت العواقب-أو هُدِّدت، من يعلم؟ ولم تنشر تنويهًا،فما بالك بالآخرين ؟
والنتيجة بدهيّة: لم يقرأ أحد.
وهم-تعرفون من هم- حسموا الارتباكات هنا وهناك، واعتقلوا القصائد قبل أن يصل نبأ تحرّرها لأيّ شخص قد يهتمّ (صمدت لنحو ساعة ونصف على أرفف معرض الكتاب وباعت 27نسخة)
ثم: صمت مطبق.. مخيف.. ومخزٍ؛ كأنّ جريمةً لم تقع.
إلى أن فعلها واحدٌ، بعدها بعامين،شخصٌ وحيدٌ-لا يُكافيء فضله امتنان ولا يوفيه شكر-حمل ما استطاع حمله مما أفلت من المصادرة ووزّعها على من استطاع الوصول لهم،فوصلت القصائد ولو للبعض.
كسر -وهو الأستاذ الكبير- شيئًا من الطوق عنّي وقصائدي، فبعث فيّ أملاً كبيرًا لأعيد المحاولة، لأخوض جولةً أخرى وأكتب.
فعلتها بكتابٍ ثانٍ، صحيح دافعه الأوّل ماديّ، وصحيح سُرِقت بعض نصوصه ونشرت دون إذن باسم آخر، وصحيح منع من دخول البلاد (نشر خارجها تجنّبًا للمصادرة؛فحُظر)، لاقى مصيرًا مشابهًا لسابقه، لكنّي أراهن على كفٍّ أخرى ستمنحه الحياة والحريّة وتمنحني معه شيئًا منهما،ولو بعد حين.
وإن لم يكن؛ سأحاول ثالثةً ورابعةً وعاشرة..إلى أن يصل صوتي وكلامي. هذا واجبي، وكونه واجبٌ يعني أنّي قادرٌ وأنّه ممكن.. وهو ما سيكون اليوم أو غدًا.