سياسة
محمد داغش
لا يمكن أن يكون بسيطاً أو ذا بعد واحد، لأن موسكو لم تدخل المعادلة فقط لإنقاذ نظام الأسد، بل لتحقيق أهداف استراتيجية أوسع. إذا نظرنا بعين ثالثة في كل ما حدث، يمكننا أن نطرح سؤالًا مختلفًا: هل أرادت روسيا الحفاظ على الأسد كشخص، أم الحفاظ على الدولة السورية ضمن نفوذها؟
لا وجود لثقب واحد، كل ينظر اليه من منظوره. من المؤكد أن روسيا استماتت على بقاء الأسد في السلطة، رغم محاولة موسكو بالالتفاف حول ذلك، فتارة تهيئ نائب الرئيس معدوم الفعالية فاروق الشرع لتستبدله بالأسد تماشياً مع النداءات الداخلية دون التفريط بالنظام العام غير القابل للتغيير أو الإصلاح على الإطلاق، وتارة تبطل أي قرار أممي من شأنه التقدم خطوة واحدة باتجاه إسقاطه. فقد منعت المجتمع الدولي من اتخاذ اي قرار حاسم ضد النظام المخلوع بستة عشر فيتو منذ بداية الثورة السورية في 2011 وحتى إسقاطه أخيراً من الداخل.
ورغم كل هذا، كان النظام يترنح قبيل التدخل الروسي بشكل رسمي وبطلب من واشنطن ذاتها في محاربة الإرهاب كهدف معلن! وروسيا تستجيب لبرنامج الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب تلقاء نفسها لكنه فعلياً كان منع انهيار النظام واستعادة سيطرته على الأرض بعدما نجحت موسكو ودمشق بتصدير الصورة المقلقة لبديل الأسد المتسمة بتنظيم “داعش” وأخواتها وهو ما عمل عليه الأخير منذ سقوط بغداد في عام 2003 لينفجر أخيراً في ظل تعبئة وتعزيز الشرخ الأيديولوجي واستقطاب مليشيات طائفية صديقة منذ اليوم الأول! اليوم الأول حقيقة وكل من يقول غير ذلك فهو كاذب.
لقد أبدى رأس النظام السوري وجميع من حوله فشلاً ذريعاً وعلى جميع الأصعدة في التعاطي والتخاطب وحتى التخطي والنسيان فضلاً عن المصالحة الوطنية التي لم تكن ممكنة عند الطرفين لهشاشة الغاية. وعلى عكس ذلك، نجح بقوة في تصدير الصورة النمطية للبديل عنه وإذكاء حالة التوتر بين شعوب المنطقة وتحويل سوريا إلى أكبر مصنع للمخدرات في العالم، كورقة ضغط أولاً على دول المنطقة بمساعدة حلفائه الخبراء في الصنعة، وكمصدر تمويل جيوب وعمليات عسكرية بعدما أفرغ البلد من كل ما يباع من مقدرات وحتى آثاره التي شوهدت في مزادات عالمية ووثقتها اليونسكو.
لم يبق لموسكو حجة في التدخل بعدما سلمت البلاد للأسد وعادت الأمور الميدانية لزمام نظامه، إلّا أن تحوّل تلك المسألة إلى ورقة ضغط ضد النظام تحجّم من خلالها التمادي الإيراني بوجودها على رأس القرار، وعرقلة عمليات عسكرية واسعة تمنتها دمشق لاستعادة إدلب بالكامل، لكن تحييد الأسد من أدواته ليكون بالكامل أداة روسية أكثر من كونه سلطة مستقلة آل دون ذلك.
قاعدة حميميم ليست فقط ثمن هذا الانتحار! بل هي أصغر الحصص التّي قاتلت لأجلها موسكو. ولست هنا لذكر المطامع الغربية في بلادنا التي تقدم اليوم كجوائز ترضية، لكنّي أصر على التغريد خارج السرب فيما يخص هذه الاستماتة على تلميع الأسد وتثبيت براغي حكمه من قبل دولة ورثت ضربات مهينة إبان تفكك الاتحاد السوفييتي وعلى شكل انتصار “ثقيل” أحياناً أمام عدو صغير كجورجيا في عام 2008.
حاولت روسيا أن تصدّر نفسها بشكل مختلف في سوريا، تُظهر نفسها بموضع قوّة فاعلة في المنطقة بعدما أمتهن الغرب حرب العقوبات الاقتصادية كوسيلة للضغط إبان اجتياح جزيرة القرم، تراءى لها أيضاً عدم رغبتهم بالتدخل الحاسم في سوريا، وعلى أثرها قفزت دون مظلة في العمق السوري لتحل محل السفير الأول للعالم الخارجي، عبر ما عرف لاحقا بمثلثات موسكو أو الدبلوماسية الثلاثية الروسية في سوريا، والطرف الأكثر قوة بين مجموعة أنظمة فاشلة تحاول السيطرة على ثورة عارمة. هيمنة روسيا الأكثر فعاليّة على الأرض السورية، حولتها لنادي دولي للمفاوضات وساحة لفرد عضلاتها العسكرية واختبار تطوراتها الكبيرة بمباركة النظام السوري الذليل، إذ أشار نائب رئيس الوزراء الروسي، ديمتري روغوزين، في عام 2017، إلى أن النجاحات العسكرية الروسية في سوريا أدت إلى زيادة حادة في عدد عقود شراء الأسلحة وأنظمة القتال الروسية. كما سجلت الإحصاءات تزايداً ملحوظاً في الطلب على الأسلحة الروسية بعدما أثبتت جدارتها ودقتها في الاستهداف، حيث وُقّعت عقود لتصدير الأسلحة بقيمة تتجاوز 26 مليار دولار بعد عام واحد من هذا التدخل اللاأخلاقي.
هذا التسليم الروحي لروسيا وتهديد الشعب بها والانتشاء لمجرد وعودها بالدعم من قبل النظام السوري البائد والمراهنة على إرجاح موازين القوى التي دون أدنى شك ما كانت لتكون لولا ضعف المجتمع الدولي عن ممارسة مهامه في تحييد العنف والوقوف مع الشعوب ضد آلة القتل. ولم يكن لنا شيء من هذه اللعبة سوى القتل.