سياسة
في تطور دبلوماسي غير متوقع، اجتمع الرئيس الرواندي بول كاغامي ونظيره الكونغولي فيليكس تشيسكيدي في العاصمة القطرية الدوحة يوم 18 مارس 2025، لمناقشة الصراع المستمر في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. واعتبر المراقبون هذا اللقاء اختراقًا دبلوماسيًا مفاجئًا، نظرًا للتوترات الحادة والتصريحات العدائية المتبادلة بين الزعيمين في الأشهر السابقة، والتي شملت اتهامات متبادلة ودعوات لفرض عقوبات دولية.
ففي الأشهر الماضية، شهدت العلاقات بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية تدهورًا ملحوظًا. اتهم الرئيس تشيسكيدي رواندا بدعم حركة “23 مارس” أو (إم 23) المتمردة، التي شنت هجمات في شرق الكونغو، مما أدى إلى نزوح آلاف المدنيين. في المقابل، نفى الرئيس كاغامي هذه الاتهامات، متهمًا الكونغو بإيواء متمردي “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا” (FDLR)، الذين يشكلون تهديدًا لأمن رواندا. تبادل الزعيمان تصريحات حادة، حيث وصف كاغامي تشيسكيدي بأنه “غير كفء” في إدارة بلاده، بينما اتهم تشيسكيدي كاغامي بالتدخل في الشؤون الداخلية للكونغو، مصرّحًا أن لقائه الوحيد مع كاغامي ” سيكون في الجنة” في إشارة إلى استحالة الاجتماع معه.
وفي ظل تصاعد هذه التوترات، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على شخصيات رواندية وأعضاء في حركة إم 23، متهمًا إياهم بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان والمساهمة في زعزعة استقرار المنطقة. شملت العقوبات تجميد الأصول وحظر السفر على تسعة أفراد مرتبطين بالعنف في الكونغو. وقد قادت بلجيكا هذه الجهود داخل الاتحاد الأوروبي، مما أثار غضب كيغالي.
ردًا على العقوبات الأوروبية والدور البلجيكي فيها، أعلنت رواندا في 17 مارس 2025 قطع علاقاتها الدبلوماسية مع بلجيكا، وأمرت جميع الدبلوماسيين البلجيكيين بمغادرة البلاد خلال 48 ساعة. اتهمت كيغالي بروكسل “بالكذب والتلاعب لتشكيل وجهة نظر عدائية غير مبررة تجاه رواندا”. في المقابل، أعربت بلجيكا عن أسفها للقرار، واعتبرته “غير متناسب”، وأعلنت بدورها أن الدبلوماسيين الروانديين غير مرحب بهم في البلاد.
أهمية هذا الاختراق الدبلوماسي القطري وتوقيته
يُعَدّ اللقاء الذي جرى في 18 مارس 2025 في الدوحة بين الرئيس الرواندي بول كاغامي ونظيره الكونغولي فيليكس تشيسكيدي اختراقًا دبلوماسيًا لافتًا، خاصةً في ظل فشل الجهود السابقة التي بذلتها الدول الغربية والمؤسسات الأفريقية لتحقيق مثل هذا التقارب.
فقد شهدت الفترة الماضية محاولات متعددة من قبل دول أفريقية ومؤسسات دولية للتوسط بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، إلا أن هذه المساعي لم تُكلَّل بالنجاح. على سبيل المثال، أُلغيت قمة لواندا التي كانت مقررة في ديسمبر 2024 بسبب رفض رواندا المشاركة، مشترطةً إجراء حوار مباشر بين كينشاسا وحركة “إم 23″، وهو ما رفضته الكونغو. كما فشلت جهود الاتحاد الأفريقي وبعض الدول الأفريقية، مثل أنغولا، في تقريب وجهات النظر بين أطراف الصراع.
وفي مطلع العام، وقبل اجتماع الدوحة، رفض الزعيمان عدة محاولات لعقد لقاءات مباشرة. في فبراير 2025، أُعلن عن اجتماع أزمة بين كاغامي وتشيسكيدي في إطار قمة لزعماء شرق وجنوب أفريقيا في تنزانيا، إلا أن تشيسكيدي لم يشارك في القمة مباشرة تجنبًا لقاء الرئيس كاغامي. ولم يُعقد بعدها اجتماع ثنائي رسمي بين الرئيسين كاغامي وتشيسكيدي منذ تصاعد الصراع مع حركة “إم 23” في يناير 2025. لذا، اعتبر لقاء الدوحة بوساطة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الأول من نوعه منذ قمة الاتحاد الإفريقي في فبراير/شباط 2024.
ووسط هذه الأجواء المتوترة، برزت قطر مرةً أخرى كوسيط محايد، مستفيدة من علاقاتها الجيدة مع كلا البلدين، مما يعكس دورها المتنامي كدولة صانعة للسلام في النزاعات الإقليمية. وبحسب وكالة رويترز عن مصدر دبلوماسي قطري، وصف الاجتماع بأنه “غير رسمي” ولا يسعى إلى استبدال أي جهود قائمة. لكن جميعنا نُدرك أنه في الواقع يعكس هذا اللقاء تحولًا في مسار المفاوضات المتعثرة، في وقتٍ كانت الأنظار تتجه إلى أنغولا، والمفاجأة التي لحقتها بغياب إم 23 عن طاولة المفاوضات، مما دفع الرئيس الكونغولي إلى تجاوز الوسطاء التقليديين، والتوجه مباشرة نحو كاغامي، الذي يعتبره الزعيم الفعلي للحركة في قطر.
تأثير الوساطات على صورة قطر أفريقيًا وقوتها الناعمة
قد برزت دولة قطر في العقدين الأخيرين أفريقيًا، كوسيط دولي فاعل في حل النزاعات، مستندة إلى دبلوماسية نشطة ونهج يرتكز على الحوار والتفاهم. وبات معلومًا أن جهود الوساطة القطرية امتدت لتشمل مناطق متعددة في آسيا وأفريقيا، مما عزز من مكانتها الدولية وساهم في تعزيز صورتها كدولة صانعة للسلام.
فعندما نبتعد قليلًا عن أدوار الوساطة التي لعبتها قطر في آسيا، من اليمن إلى لبنان، ومن أفغانستان إلى فلسطين، نجد أن الدبلوماسية القطرية في إفريقيا لم تكن أقل تأثيرًا، بل ربما أكثر عمقًا في بعض الملفات. في السودان، كان لقطر دور محوري بين عامي 2008 و2011، حيث ساهمت في التوسط بين الحكومة السودانية وحركات التمرد في دارفور، في مفاوضات أسفرت عن “وثيقة الدوحة للسلام” في يوليو 2011. كانت الوثيقة نقطة تحول في الأزمة السودانية، إذ تضمنت بنودًا جوهرية حول تقاسم السلطة والثروة، وحقوق الإنسان، والعدالة والمصالحة، وتعويض النازحين، إضافةً إلى تهيئة الظروف لحوار داخلي شامل.
لم يتوقف الدور القطري عند هذا الحد، ففي يونيو 2010، كانت قطر الوسيط الأبرز في النزاع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا. أدى تدخلها إلى وقف إطلاق النار وتوقيع اتفاق بين البلدين، في خطوة ساهمت في منع نزاع طويل الأمد كان سيؤثر على منطقة القرن الإفريقي بأكملها.
لكن الوساطة الأبرز، والتي لا تزال مفاعيلها مستمرة حتى اللحظة، كانت في تشاد عام 2022. بعد اغتيال الرئيس إدريس ديبي في أبريل 2021، وجدت البلاد نفسها في حالة من الفوضى السياسية والأمنية. تدخلت قطر، واستضافت محادثات بين المجلس العسكري الانتقالي وفصائل المعارضة المسلحة، ليتمخض عنها اتفاق سلام في أغسطس 2022، ساهم في إعادة ترتيب المشهد السياسي التشادي، وفتح الطريق أمام انتخابات أعادت شيئًا من الاستقرار إلى البلاد.
وعلى نحوٍ مُماثل، في الوساطة الراهنة، يُمثل هذا اللقاء اختراقًا دبلوماسيًا بالغ الأهمية، ليس فقط لأنه جمع زعيمي جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا بعد فترة طويلة من التوترات والاتهامات المتبادلة، بل لأنه يعكس تحولًا جذريًا في مسار الأزمة. فأحد أبرز مخرجات هذا اللقاء هو استئناف الحوار المباشر، وهي خطوة لم يكن من الممكن تصورها قبل أشهر قليلة، الجلوس وجهًا لوجه بعد مرحلة من التصعيد يعكس استعداد الطرفين لمناقشة القضايا العالقة، مما قد يمهد الطريق لحلول سلمية، بعيدًا عن لغة السلاح التي أنهكت المنطقة.
لكن الأهم من ذلك، هو التأكيد على التزام مشترك بوقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار، ما اعتبر تحولًا استراتيجيًا قد يعيد ترتيب المعادلة الميدانية، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التهدئة، بعد أن كانت كل المؤشرات تشير إلى مزيد من التصعيد.
خاصةً إذا ما أخذنا في الحسبان، أن القوى الغربية والمؤسسات الإقليمية فشلت مرارًا في جمع الرجلين إلى طاولة واحدة. منذ اندلاع الصراع، كان الهدف الرئيسي لهذه القوى هو إحداث اختراق دبلوماسي مماثل، لكنها لم تفلح، بل على العكس، كلما اقتربت لحظة توافق، جاء تحرك غربي يعيد خلط الأوراق. فقبل يوم واحد فقط من الحديث عن اجتماع بين الحكومة الكونغولية وحركة إم 23، وهو اللقاء الأول من نوعه، سارعت الدول الأوروبية إلى فرض عقوبات على شخصيات من الحركة، ما أدى إلى انسحابها من المفاوضات، مدمّرة بذلك أول بارقة أمل حقيقية لحل الأزمة.
وقد ارتأى بعض المراقبين أن التحرّك لم يكن اعتباطيًا، بل بدا لهم كخطوة مقصودة للحيلولة دون التوصل إلى اتفاق، لأن نجاح المصالحة، قد يعني توقف التدخل الغربي في الموارد الكونغولية. فلو كانت هذه القوى صادقة في سعيها للسلام، لما اختارت هذا التوقيت بالذات لفرض العقوبات، وهي تعلم جيدًا أن مثل هذه الخطوة ستعرقل أي اختراق في المفاوضات. ففي النهاية، لا يحتاج المشهد إلى كثير من التحليل، فحين تتكرر الأنماط نفسها في كل صراع أفريقي، وحين يأتي العرقلة من نفس الجهات التي تدّعي دعم السلام، يصبح من المشروع التساؤل: هل كان المطلوب هو إنهاء الصراع.. أم إدارته بما يضمن استمرار الهيمنة ونهب الثروات؟
ختامًا، وراء الدور الدبلوماسي القطري المُشيد به، لا يمكن إغفال أن لدى قطر مصالح اقتصادية راسخة في كل من رواندا والكونغو الديمقراطية، ما يجعلها وسيطًا مسموعًا قادرًا على تحقيق التوازن بين المصالح السياسية والاقتصادية. ففي رواندا، عزّزت قطر حضورها في قطاع الطيران من خلال استحواذ الخطوط الجوية القطرية على 49% من أسهم الخطوط الجوية الرواندية، وسعيها لتحويل كيغالي إلى مركز إقليمي للنقل الجوي، مدعومًا بمشروع بناء مطار كيغالي الجديد، الذي يُتوقع أن يصبح أحد أهم مراكز الطيران في شرق إفريقيا. وفي الكونغو الديمقراطية، اتجهت قطر نحو الاستثمار في البنية التحتية، حيث ضخ الصندوق السيادي القطري استثمارات كبيرة في تطوير ميناء ماتادي، لتعزيز القدرات التصديرية للبلاد ويربطها بالأسواق العالمية، ليصبح هذا الميناء شريانًا تجاريًا رئيسيًا في المنطقة. هذه المصالح المشتركة، إلى جانب السمعة الدبلوماسية التي بنتها قطر وعلاقاتها المتوازنة مع الطرفين، جعلتها الخيار الأمثل كوسيط يحظى بالحياد والثقة، وهو العامل الذي تفتقر إليه العديد من القوى التقليدية في إدارتها للأزمات الإفريقية، حيث تطغى الحسابات الجيوسياسية على أي اعتبارات أخرى.