مدونات
للكاتب: ظاهرٌ صالحٌ
كثيرةٌ هي الأوجاع في حياتنا، ومتعبةٌ هي الآلام في مشوار حياة الإنسان التي لا يعلم إلى كم من السنوات تمتد، ولكن يبقى وجع وألم واحد من الصعب معالجته، ألا وهو ألم الفقد والفاجعة.
هو ألم يصيبك من الداخل، ولا تعلم كيف تنتهي منه، وكيف تعبّر عمّا بداخلك من مشاعر وأحاسيس، تمتزج معها الذكريات بمن عاشوا معك أو حولك، وذقت معهم جمال الحياة وقسوتها.
يا ترى؟! ما الذي يجعل المرء يتذكّر الموتى بعد سنوات من رحيلهم؟ ويسترجع ذكرياته معهم من بين مئات، بل وآلاف الذكريات في الماضي؟
أليس التفكير بالماضي مثيرًا للمشاعر ومدعاة للعذابات؟
أسئلة محقّة، لكن الإجابة عليها تبدو مرهقة كثيرًا، في زمن تكثر فيه الأحزان والآلام!
من منّا في هذه الدنيا لم يتجرّع مُرّ الفراق ويذق ألم الفقد؟
من منّا لم يذرف الدموع وتعتصره العبرات على أحياءٍ في الأرض أو أمواتٍ في السماء يسكنون!
كلنا نفقد بعض أحبتنا! وكلاهما موجع، كلاهما يترك حسرة في القلب وجراحًا لا تبرأ، وعزاؤنا الوحيد أن نعرف أن الغائبين الأحياء هم بخير، لكن ماذا عن الذين غيّبهم الموت؟
ففقدُ الموت متعبٌ للروح، وصعبُ الشفاء منه، فهو لا يشبه عذابات وآلام الفقد الأخرى!
أمي، رحمها الله، توفيت صبيحة التاسع عشر من رمضان 2013، بعد معاناة قصيرة مع المرض، ارتقت روحها إلى الأعلى، وحظي جسدها المنهك بتشييعٍ حزينٍ إلى تحت التراب، ووُورِيَت الثرى.
تأملتها كثيرًا قبل أن يهيلوا التراب عليها، كنت أدرك أنها النظرة الأخيرة، أحسست بلحظة انكسار لم أعشها طيلة حياتي، تحجّرت الدموع في عينيّ، تاركةً لوعة لا تُوصف وحرقةً تعتصر القلوب، ستبقى ترافقني ما دمتُ من الأحياء.
كانت تُخفي علينا أوجاعها وتردد: “أنا الحمد لله بخير”، وتجاهد في تحريك أطرافها لتبدو بحالةٍ جيدة، وهي التي كانت تنكسر وتحنو، إذا تعثّر أحدنا بباب البيت، تهبّ مسرعةً نحوه، ونسمع منها كلمة (يمّا)، فأنت محظوظٌ كثيرًا عندما تتلمّس أمك جسدك وتتحسّس شعرك.
ما أجمل يديك وجبينك يا أمي، وخديك وكفّيك، كأنما ينام فيهما القمر.
قبل أن تموت أمي بأشهر وربما بأيام، كنت أحدث نفسي عن الموت، وأحسب ردود فعلي تجاه موت محتمل قد يطال أبي الكبير في السن وقد يموت في أي لحظة، هكذا تحدثني نفسي أو أُحدثها، فأجد صعوبة بالغة في تصور هذا المشهد، تتحجّر الدموع في عينيّ، فأتوقف عن هذه التصورات.
لكن عندما أصبح هذا المشهد حقيقيًا، لم أجد وقتًا للبكاء نظرًا لانشغالي بتجهيزات الدفن والعزاء، ولأن الله منحني من الصبر ما جعلني متماسكًا، وأنا أبلّغ النبأ إلى الأقارب والجيران.
لكنني أعترف إنني أمر بحالات ضعف، فتنزل الدموع من تلقاء نفسها عند تذكّر تلك اللحظات العصيبة قبل سنوات من الآن.
جلستُ في صمت، أترحّم على روحِها الطاهرة، أتأمل ملامحها، كأنها عروس فاتها أن تستيقظ من نومها، ولم يُخيل إليّ أنها ستكون الساعات الأخيرة، ولحظات الوداع الآتي، وأن هذه لحظات الغيبوبة التي تسبق الموت.
أمسكت يدها، شعرت بأن رعشة الموت هي التي كانت تسري في روحي وأنحاء جسدي، نعم، أن يُوشك الإنسان على فُقدان نفسه حزنًا على من فقده.
حينها ناديتُ بملء حزني ورجائي، أحاول إيقاظها وحثها على التمسك بالحياة ولو للحظة، هذه أول مرة أنادي عليها ولا تردّ عليّ أمي، ولا تكلّمني!
رحلت أمي في ظروف بالغة الصعوبة، ولحظة غير متوقعة، لازلت حزينًا إلى الآن كلما سافرت بي الذكريات إلى زمن ما قبل موتها.
رحلت أمي، ولحق بها أبي الذي لم يكن في قدره أن يعيش ثلاثة أيام، على الرغم من أنّ المرض أقعده قبلها بسبع عشرة سنة.
اختارها الله عز وجل لتسبقه وترحل عن الحياة الدنيا، ويكون الرحيل بلا رجوع.
أنظر إلى وجه أبي بذهول وحيرة، الله يعلم مقدار التعب الذي تكدّس في تنهيداته..
رحلت رفيقة عمرك يا أبي دون أن تودّعك، رحلت قبلك ولم تودّعنا.
بدأت تتداعى الصور وتختلط الدموع مع العذابات والذكريات، والحاضر مع الماضي.
لم أتوقع أن الساعات القادمة ستضعني وتتركني على مفترق الفجيعة وبداية طريق الآلام والأحزان، بعد قضاء أيام وليالٍ بجانبها، وجانب أبي الممدد على سرير المرض.
في عزاء اليوم الثالث 21 رمضان، وقبل أن يجفّ تراب قبر أمي، كانت الفاجعة الثانية، نبأ وفاة أبي، أي حِمل ثقيل ألقى القدر على عاتقي!
حتى أحملكِما ألمًا مع جملة الراحلين الذين انفطر قلبي لفقدكما!
أحسست بحِملٍ ثقيلٍ وبدوارٍ شديد، وأنّ البيت والمكان والكون بدأ يتشح بالسواد!
رحلت سريعًا أيضًا يا أبي، هل العمر شحيح، وبخيلُ الموت لم يُمهلكما كثيرًا؟!
أعزّي نفسي وإخوتي فيكما، وأبحث عمّن يعزّيني!
فلا عزاء يجدي ليطبطب على قلبي، أو ليكفكف دمعي، ولا يبقَ لك كبير ومعين، الكبير والمعين هو الله عز وجل.
ثقيلٌ عليّ الفراق، أمدّ يدي لألمس الذكريات، فيراودني عطفهما، الذي يأخذنا إليه في كل مرة نصافحكِ فيها، فتجرحني رهافة الذكرى، ويرثيهما قلبي آسفًا، يخنقني فيض العبارات الذي يعجّ به صدري، وأود أن أكتبهما فيها، وما أن أشرع في ذلك حتى تتجمّع ما تناثر من ذكريات، وتسيل الدموع بحرقة على فراقهما، ويرجوها أن تبرّد نيران الحزن في جوفي.
ممتلئةٌ قلوبُنا بالحزن والوجع، شاحبةٌ الحياة في أعيننا، وتغصّ حناجرنا ألمًا، ترجف أصواتنا رهبة، وتفيض مدامعنا أسى، نتوقف عن التنفّس حتى نكاد نختنق، تتوقف عجلة الحياة عن الدوران للحظات من هول الفاجعة التي لا يمكن أن نستوعبها.
لا تسع الأرض حزننا وخيباتنا، ذلك حالنا حين نتلقى خبر رحيل غالٍ إلى دار الفناء، فكيف بوالديك وفي ثلاثة أيام متتالية؟
حينها تذكّرت تلك الكلمات التي كان يهمس بها، لعلها كانت أمنيته أن يلحق برفيقة عمره، ويُوارى الثرى، في قبر بجوارها.
أمي.. أبي
رحيلكما، ألمٌ أبديّ كملحٍ يذوب في جروحي، تحاصرني النظرات والكلمات والذكريات المحفورة في وجداني وضميري.
تغلبني الدموع، ويعتصر قلبي الألم، كلما جاءت ذكركما على ألسنةٍ، لم تملّ الحديث عنكما أبدًا، وما هذا الفقد إلا غربة أبدية سنحيا بها أبد الدهر.
رحيلكما سلب كل المعاني، وسلب الحياة بأسرها، فلو عدتُ وأدركتُ حجم فاجعتي المرّة بكما، وألم فقدكما، لبكيتُ كما كنتِ تبكيني حُلمًا وتأسرني مصادفات رؤياي بكما، مع تفاصيل معتبة أعيشها، لتُثبت لي أن فقدي بكما لم يفرقنا، فالأرواح تتلاقى إن عزّ لقاء العيون.
رحلتما جسدًا، لكن ستبقيان في ذاكرتي، ستظلّ قلوبنا تنبض حبًا ووفاءً، وكلما فاضت أرواحنا شوقًا لكما سنرتّل القرآن ونقرأ الدعاء لروحكما.
إنها رحلة الموت التي لا تنتهي إلا بانتهاء حياة الدنيا.
رحم الله أرواحًا كانت تعيش بيننا، وتغمرنا ببشاشتها وابتسامتها، رغم آلام وأوجاع المرض.
رحم الله تلك الضحكات، وتلك الملامح التي لا تغيب عن مخيلتنا، فهي من علمنا الحب والإخلاص والتضحية والعطاء.
“رحمكما الله يا والديّ، وأحسن إليكما، وجعلكما من أهل الجنة خالدين فيها.”