مدونات

قراءة في الأبعاد النفسية والاجتماعية لجرائم الحرب السورية

مارس 15, 2025

قراءة في الأبعاد النفسية والاجتماعية لجرائم الحرب السورية

للكاتب: عبد الرحمن حسنيوي


تقول حنة آرنت في كتابها “إيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر”:

“إيخمان لم يكن شيطانًا، كان مجرد شخص عادي يفتقر إلى القدرة على التفكير”،

حيث تصف هنا كيف كان إيخمان مجرد منفذ بيروقراطي للأوامر في النظام النازي، دون أن يمتلك وعيًا أخلاقيًا مستقلًا.


على مدار السنوات الأخيرة، برزت العديد من المجازر التي ارتكبتها قوات نظام الأسد في مناطق سورية مختلفة، من بينها مجزرة حي التضامن التي تُعدّ إحدى أبشع جرائم الحرب، حيث قُتل فيها العديد من المدنيين بطرق وحشية. ولكن ما يجعل هذه الجريمة تتفرد ليس فقط في بشاعتها، بل أيضًا في الطريقة التي تم بها توثيقها، من خلال تسجيلات مصورة بثتها وسائل الإعلام، لتكشف عن التفوق القاسي للقوة المفرطة والانتهاك الصارخ للإنسانية.

وعلى الرغم من أن هذه الجرائم تُظهر الوحشية والبربرية التي لا يمكن أن تُغتفر، فإنّ فهم هذه الأفعال يستدعي تحليلًا نفسيًا عميقًا يتجاوز مجرد التصوير الخارجي للأحداث. قبل الخوض في تفاصيل الجريمة نفسها، يجب علينا أولًا أن نتساءل عن العوامل النفسية التي تجعل فردًا ينفذ أمرًا بقتل شخص بريء دون أدنى شعور بالندم أو التردد.

لفهم هذا، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن السلوك البشري لا يتأثر فقط بالعوامل البيولوجية أو الاجتماعية، بل إن الظروف النفسية والثقافية يمكن أن تُساهم بشكل كبير في تشكيل هذا السلوك. في سياق الحرب الأهلية السورية، عاش القائمون على هذه المجزرة في بيئة تم فيها تدمير القيم الإنسانية الأساسية مثل الرحمة والعدالة، وبدلًا من ذلك، تم غرس ثقافة الطاعة العمياء والخوف من السلطة.


تشير العديد من الدراسات النفسية إلى أن الأفراد الذين ينشؤون في أنظمة استبدادية غالبًا ما يتعرضون لمستوى عالٍ من التطبيع مع العنف، حيث تتحول القيم الإنسانية إلى مجرد مفاهيم هامشية، ويتم تبرير العنف تحت شعارات مثل: “الحفاظ على الأمن” أو “التضحية من أجل الوطن”… في هذا السياق، أصبح القتل في نظر أولئك المرتبطين بالنظام ليس مجرد عمل إجرامي، بل هو “واجب” و”خدمة” للوطن، مما يحوّل الضحايا إلى أعداء ليس لديهم أي قيمة إنسانية.

هذا التحول النفسي يبرر أفعال القتل التي يقوم بها الجاني، ويجعل من الصعب عليهم استشعار بشاعة أفعالهم. من جانب آخر، عندما يكون هؤلاء الأفراد جزءًا من منظومة تُعزز الانقسام بين “الأنصار” و”الأعداء”، يُصبح من السهل نزع الإنسانية عن هؤلاء “الأعداء” عبر عقود من التدريب العسكري والقمعي، حيث يصبح الجندي في النظام السوري يرى نفسه في دور “المنتصر” على “العدو”، وأحيانًا يتم تشويه مشاعر التعاطف والتراحم.


هذا النوع من الإيديولوجيا الموجهة لهؤلاء الجنود يساعدهم في “نزع المسؤولية” عن أفعالهم، حيث يُنظر إليهم فقط كأدوات منفذة للأوامر الصادرة من الأعلى.

من خلال تحليل سلوك الجناة في المجزرة، يظهر بوضوح ما يُعرف في علم النفس بـ”التبلد النفسي”، وهو حالة نفسية تتطور لدى الأفراد الذين يعيشون في بيئات مليئة بالعنف والقسوة بشكل مستمر، فالتكرار المستمر لمشاهد العنف والقتل يُفقد الشخص حساسياته تجاه هذه الأفعال، ويميل إلى أن ينظر إليها على أنها جزء طبيعي من الحياة اليومية، مما يُساهم في خلق حالة من “اللاعقلانية” حيث يصبح القتل والدمار جزءًا من الروتين اليومي، وينطبع في ذهن الجاني بأن هذه الأفعال لا تثير أي نوع من الاستياء أو الندم.


في مثال مجزرة حي التضامن، على الرغم من أن التسجيلات المصورة أظهرت الفظائع التي ارتُكبت بحق المدنيين، كان من الواضح أن القائمين على تلك الأفعال لم يظهروا أي علامات على الصراع النفسي أو التردد. هذا التبلد النفسي قد يكون نتيجة لإعادة برمجة سلوكية تم خلالها إزالة أي مشاعر إنسانية كان يمكن أن تكون موجودة، واستُبدلت بنظرة قاسية تؤمن بأن الضحايا لا يستحقون الحياة أو الاعتراف بإنسانيتهم.


في جانب آخر من التحليل النفسي، لا بد من أن نولي اهتمامًا كبيرًا لتأثير هذه الجرائم على الضحايا، سواء كانوا قتلى أو ناجين. فبالنسبة للقتلى، يتم القضاء على حياتهم بشكل مفاجئ، مما يحرمهم من القدرة على الدفاع عن أنفسهم أو حتى فهم ما يجري لهم. أما بالنسبة للناجين، فإن تجربة الموت الوشيك والرعب المستمر تترك آثارًا نفسية عميقة يمكن أن تستمر طوال حياتهم.

في مثل هذه الظروف، يعاني الناجون من اضطرابات ما بعد الصدمة، حيث يعيدون باستمرار المشاهد المرعبة التي عاشوها في رؤوسهم. يمكن أن تتنوع آثار هذه الصدمات النفسية بين الأفراد، فالبعض قد يعاني من نوبات هلع، والبعض الآخر قد يواجه مشاعر شديدة من العجز أو الذنب، حتى لو كانوا ضحايا.


وعلى المستوى الاجتماعي، تصبح هذه الصدمات مرعبة لأنها تتسرب عبر الأجيال، مما يُؤثر في الجميع، حتى أولئك الذين لم يتعرضوا بشكل مباشر للقتال. هذه الأوضاع تؤدي إلى تفشي حالات من القلق الجماعي وفقدان الثقة في المستقبل، الأمر الذي يخلق بيئة مشبعة بالخوف والاستسلام.

إن مجزرة حي التضامن ليست مجرد جريمة فردية، بل هي جزء من ثقافة أكبر يتم تشجيعها في المجتمعات القمعية. في مثل هذه الأنظمة، حيث يتم تدمير المؤسسات الديمقراطية، تصبح الجريمة جزءًا من آليات السلطة السياسية التي تعمل على خلق شرخ في المجتمع، من خلال تعزيز مشاعر الخوف والتخويف، يتم عزل الأفراد عن مسؤولياتهم الإنسانية والأخلاقية، ما يسمح للقادة بإدامة سيطرتهم عبر العنف.

إن العنف الممنهج في مثل هذه الأنظمة يستهدف ليس فقط الضحايا المباشرين، بل المجتمع ككل، فتدمير النسيج الاجتماعي وخلق الانقسامات بين أفراد المجتمع يساهم في بسط السلطة وتفشي الخوف بشكل أكبر، ومع مرور الوقت، يصبح القتل جزءًا من الروتين اليومي الذي لا يُستشعر بشاعته.


لمواجهة آثار مثل هذه الجرائم النفسية والاجتماعية، من الضروري أن تكون هناك خطوات عملية نحو العدالة الانتقالية. هذه العمليات تهدف إلى استعادة الثقة في المؤسسات القضائية والعدلية، واستعادة الإنسانية لأولئك الذين تم تدمير حياتهم بسبب القمع والعنف.

العدالة الانتقالية تتطلب محاسبة الجناة، ولكنها أيضًا تتطلب توفير بيئة مناسبة لشفاء الضحايا، سواء كانوا على قيد الحياة أو فقدوا حياتهم. كما يجب أن يكون العلاج النفسي جزءًا أساسيًا من عمليات إعادة التأهيل الاجتماعي، مع التركيز على تخفيف الصدمات النفسية التي يعاني منها الناجون.


في الأخير، لا تقتصر جريمة مجزرة حي التضامن على كونها جريمة جسدية وحسب، بل هي انعكاس لتحولات نفسية عميقة تُقلب القيم الإنسانية، وتخلق بيئة تُبرر العنف وتُطبع القتل. ولا تقتصر تبعات هذه الجرائم على الأفراد المباشرين المعنيين، بل تمتد إلى المجتمع ككل، مما يجعل من الصعب على المجتمعات المتضررة التعافي دون عمليات معقدة وشاملة تعيد بناء قيم العدالة والرحمة.

شارك

مقالات ذات صلة