مجتمع
صيف عام 2011، في منطقة المزرعة بدمشق، وتحديداً في مقر دير الآباء اليسوعيين، كنا نعقد جلسات حواريّة تضمّ أكاديميين وناشطين ومدنيين من مختلف أطياف الشعب السوري، هدفنا من خلال تلك الجلسات -التي تخللها حلقات تحليل نفسي على قاعدة (سايكودراما)، وكانت الدكتورة والمحللة النفسية رفاه ناشد عضواً رئيسياً في الجلسات التحليلية- هو فهم كيفية تحويل الغضب والخوف إلى طاقة تبني السلام بين السوريين.
في إحدى الجلسات، حدّثنا مشارك -وكان من الطائفة العلوية- قائلاً إنه خائف جداً، وإنه يعلم أن نظام الأسد دكتاتوري وقاتل، وعقّب أن هذا النظام أمضى عقوداً “يخلق فينا الخوف من العنف الإسلامي، فكيف يمكن لخوفي أن يختفي؟”. أجابه مشاركٌ آخر -وكان مسيحياً- قائلاً: الخوف طبيعي، لكنه أحياناً يكون نتيجة أوهام، دعني أروي لك هذه القصة: “قبل أيام شاركت في مظاهرة عقب تشييع شهداء في مدينة دوما بريف دمشق، الأمن بدأ بإطلاق الرصاص، وعناصره دخلوا بين المتظاهرين لتنفيذ اعتقالات واسعة النطاق، كنت تائهاً بنفسي، ولكنّي كنت مدركاً أن وابل الرصاص لن يصيبني، فالموجودون من الطائفة السنّية قاموا بخلق جدار عازل لحمايتي بمجرد معرفتهم أنني مسيحي، قاموا بتهريبي إلى أحد الأحياء، أدخلوني أحد المنازل ووضعوني بين النساء في ذات الغرفة كي يبدو مشهدي كأحد أفراد العائلة في حال داهم النظام المكان”.
تحاورنا كثيراً يومها حول الخوف، الغضب، وفوبيا الدم والطائفية التي عمل النظام جاهداً على زرعها في نفوس السوريين كعامل تقسيم بينهم، وانتهينا إلى أن الثقة بالسوري وليس بانتمائه الطائفي هو الحلّ. انتهت الجلسة، خرجنا منها جميعاً، تحدثنا لفترة طويلة على الباب، ثم غادرنا المكان دون أن نعلم أن هذه الجلسة هي الأخيرة التي جمعتنا هناك. فالدكتورة رفاه ناشد اعتُقلت في مطار دمشق في شهر أيلول/سبتمبر من العام نفسه (أُطلق سراحها في شهر نوفمبر من ذات العام)، ما جعل كل الحضور يتخوفون من الحضور مرّة أخرى وسط أنباء عن وجود مخبر للنظام بيننا.
وبعد 14 عاماً على هذا الحدث.. إنه العام 2025، هرب بشار الأسد وتحررت البلاد من سطوته الحديدية والنارية والدموية، ولكن الخوف والشقاق الذي زرعه في نفوس السوريين موجود ونعيش تداعياته، حوالي 14 عاماً بين تلك الجلسة واليوم، تخللها تطرف بكل أشكاله، قتل، دمار، مجازر ممنهجة نفذتها آلة النظام العسكرية والميليشيات الرديفة التابعة له، ظهور وأفول لتنظيم “داعش”، تشريد لملايين السوريين، وتدمير للبنى التحتية السورية، وانقسامات مجتمعية كبيرة. اختفى الأسد دون رجعة مخلفاً وراءه معاناة هائلة وبلداً يرزح تحت وطأة الفقر، الخوف، الدماء، الرغبة بالانتقام، والرغبة بالسلم، الرغبة بالانقسام، والرغبة بالوحدة.
إن الصمود السوري بكل أشكاله، كان عاملاً رئيسياً في نجاح الثورة السورية بإنهاء حكم الأسد، صمود عسكري ومجتمعي وسياسي، دفع خلاله السوريون الكثير من الأرواح والأثمان المادية والنفسية. صُمود ينبغي أن يُكلّلَ بصمود آخر كي لا نقع في الفخّ الذي زرعه لنا الأسد ونظامه عبر كل العقود السابقة، فخّ الخوف من بعضنا، وعدم ثقتنا بسورية السوريين. ولعلّ أبرز التحديات التي تواجهنا اليوم هو تحدّي كسر حاجز الخوف بيننا والانطلاق نحو الإيمان برغبة السوريين كافة بالسلام والازدهار، وهم الذين أثقلتهم السنوات الماضية بكل أنواع المعاناة والتفقير الممنهج الذي كان يمارسه النظام السوري ورجاله بحقهم.
سوريا اليوم أمام مفترق حادّ، فالمكونات السورية العرقية والقومية والدينية تحمل بين جوانحها الكثير من الأسئلة والمخاوف والتوترات، وهذه نتائج طبيعية إذا ما نظرنا إلى جهود الأسد ونظامه في إدارة الانطباع الشعبي السوري خلال السنوات الماضية، وإدارة شرذمة الوعي السوري وتحويله إلى كتلة من المخاوف والتوترات المبنية على العرق والدين. ما نحتاجه اليوم كسوريين هو الوقوف أمام هوّيتنا والتمترس عندها، الهوية السورية الجامعة لنا، والمظلة التي ستحمينا من الوقوع في صراعات لن تخدم إلا الأعداء الكثر، الذين يراهنون على الخوف والانقسام الذي خلقه الأسد ونظامه في نفوس السوريين.
الوعي السوري هو الحلّ، والاعتماد فقط على قدرات الحكومة السورية المؤقتة في إيجاد الحلول/ هو هروب من المسؤولية السورية الجامعة، لأن الحكومة المؤقتة لا تمتلك القدرات اللازمة لمنع التشرذم والانقسام وحقن الدماء. مهمّة السوريين أن يضعوا يدهم مع السلطة لبناء سوريا وتأسيس شكل الحكم الذي يسعون إليه، لا أن يتركوا الحكومة دون مُعين، وتُفكر بشكل منفرد، لأن هذه الخطوة سيكون لها تداعيات على السوريين وشكل الحكم في المستقبل القريب، خصوصاً وأن مخالب الخاسرين من سقوط الأسد ما زالت تقطر دماً سورياً، والعقول التي تقف خلف تلك المخالب لم تنفكّ عن دراسة الخطط واجترح الوسائل لخلق صراع سوري-سوري جديد لبسط سيطرتهم على سوريا ومستقبلها.
عمل نظام الأسد على تفكيك البنية السورية، ووضع حواجز عسكرية بين المدن، لدرجة أن الذي يسافر من دمشق إلى حمص يشعر أنه يخرج من سجن إلى آخر، فكل مدينة سورية مُحاطة بحواجز مهمتها تخويف السوريين وتعميق الشعور بالمناطقية وإيهامهم بأنهم ليسوا سوريون، بل إنهم دمشقيون وحماصنة وحلبيون ودرعاوية وأكراد وعرب وآشوريون وعلويون وسنة ودوروز ومسيحيون، إلى آخر القائمة التي لا تنتهي. هي استراتيجية ممنهجة لتقسيم السوريين، وتفكيكٌ للانتماء السوري الجامع. للحظة تشعر أن كثيراً من السوريين غاب عن أذهانهم أنهم سوريون!
بإمكان السوريين اليوم من خلال الحوار، والوعي الجمعي ونشر الإيجابية والثقة بالهوية السوريّة، أن يقيّموا الحكومة ويتفاعلوا معها لبناء حكمٍ سوري ديمقراطي، وروحٍ وطنية مسؤولة تمنع انهيار المجتمع السوري وتؤسس لقلعة دستورية وحكومية تمنع احتكار القرار، وتبني سوريا الحرّة الفاعلة في الوسط الإقليمي والدولي. لنقف لحظة ونُفكر: من المستفيد من التوترات بين المكونات السورية؟ ومن الذي يدير عمليات تأجيج هذا الخلاف إعلامياً وميدانياً؟ وكيف يمكن قطع السبل أمام تلك المخططات؟
انتهى حكم الأسد، والثمن كان غالياً جداً، لكن علينا أن نضع أعيننا أمام هدف يبرز اليوم بقوّة، وهو إنهاء أثر حكم الأسد الاجتماعي والنفسي، ولتحقيق ذلك ينبغي لنا أن نسير بخطى سريعة نحو بعضنا، خطى مليئة بالثقة بأن الانتماء لسوريا أقوى من سنوات الأسد، وأن هويّتنا السورية الجامعة هي المظلة الأفضل اليوم لنحتمي تحتها، وأن وجود الحكومة هي لخدمتنا لا لخدمتها، وكي تخدمنا بالشكل الذي نريده لا بد لنا أن ننخرط معها، نتفاعل معها، نُذكّرها دائماً أن جهدها لخدمتنا لا لخدمة مفهوم السلطة، وأن فشلها هو فشل السوريين جميعاً لذلك عليها تحمل المسؤولية على قدرٍ واعٍ، وعلينا نحن أن نحمل مسؤولية مشاركتها السلطة، ودعمها وتقييمها ومساعدتها في بناء سوريا الموحدة الحرة الديمقراطية.