تأملات
في شارع صباحيّ هادئ ليس يشبه صباحات الإبادة مطلقاً، لكن لا يعني أنّه لا يذكّرنا بها، استوقفتني سيارة مقصوفة وقد اهترأ هيكلها من الصدأ، ويبدو أنها بقيتْ مركونة في العراء منذ أصابها القصف، وقد أغرقها المطر طوال فترة الشتاء، فتبللت وحدها بجراحها المفتوحة حتى صدئت، لكنّ الصورة لم تكن بهذا الشكل فقط، لقد كان صوت العصافير يملأ المكان، وحين دقّقتُ أكثر في المشهد، رأيت السيارة المدمرة في الشارع وقد تدلّت فوقها شجرة ازدحمت بأعشاش العصافير، فالتقطتُ لها صورة، لأنني أدركت أنّ هذه مشهدية عظيمة لا يدركها البصر بقدر ما يدركها القلب، رغم كلّ هذا الصدأ العظيم هنالك حياة ما في عش صغير فوق شجرة ما زالت أغصانها تصرّ أن تورق!
الناظر للصورة لن يرى سوى الصدأ، ولن يستطيع أن يسمع صوت تلك العصافير، لذلك فالصورة دوماً ناقصة مهما كان المصوّر محترفاً ومهما أجاد التقاط صورته، فلا كاميرا مثل القلب حين يتماهى بالوجود فيسمعه ويراه ويعيش عبر أثيره.
عن الصورة، أفكّر كثيراً في التقاطة عيننا البصرية للأشياء، سواء الطبيعة بكل مكنوناتها أو البشر بكل صفاتهم الظاهرية والباطنية، وكيف أننا نظنُّ أننا رأينا، والحقيقة أننا لم نر بالشكل الكافي، في حادثة بسيطة حدثت معي برفقة صديقتي قبل فترةٍ على البحر انتبهنا لقوس قزح يخرج من وراء البحر ويلتحم بالسماء، ولا ندري أين يتدلى طرفه الثاني، وظننت أنني استطعت تصوير هذا المشهد العظيم، لم أكن أنتبه أن صديقتي قد صوّرتني بينما كنت ألتقط الصورة، حتى أرسلتْها لي لاحقًا، لقد أصابتني الدهشة وأنا أرى الصورة، لقد كان هنالك قوس قزح، ليس قوساً واحداً، لقد رأيت المشهد بعيوني وصورته بنفسي لكنني لم أنتبه لهذا أبداً، هل كنت أحتاج لعيون صديقتي التي اختارت أن تصورني خلسة لكي أعرف أنهما قوسا قزح وليس قوساً واحداً!
في تلك اللحظة عرفت تماماً أننا نحتاج أن نرى الكثير من الأشياء عبر عيون الآخرين، وألّا نتوقف عند لقطة ما بكاميرا واحدة، وأننا نحتاج لأكثر من كاميرا وأكثر من عين وأكثر من قلب، وأننا مهما ظننا أننا على قدر كبير من الحكمة إلا أنّه “وفوق كل ذي علمٍ عليم”.
لذلك كان سيدنا الخضر في رحلته مع سيدنا موسى عليه السلام، وكأنه يفتح له عيون قلبه على مشاهد لم يكن ليراها دون أن يخبره عنها، فلم تكن سفينةً مثقوبة لفقراء، بل سفينة ناجيةً من ملك غاصب، ولم يكن غلاماً مقتولاً، بل غلاماً عاقّاً لوالديه، ولم يكن حائطاً يًبنَى بلا أجر، بل حائطاً مدفوع الأجر بصلاح أبوين لا نعرفهما ويعرفهما الله، فلذلك ليست الصورة دومًا هي التي تظهر لعيوننا منذ الوهلة الأولى، هنالك بعدٌ آخر يحتاج إلى أن تلجه بقلبك الشفاف لتبصره، وعبر هذه الشفافية اكتشف جلال الدين الرومي سرائر من روحه في جنبات صديقه العارف بالله الشيرازي، وما كانت لتخرج لنا هذه الرسائل الرائعة دون أن تتفتح عيون القلب ..
وإذا كانت كل هذه الروحانية تتفتح وأنت تجالس أناساً أرواحهم مضيئة، فكيف إذا جالست رب الروح والجسد الله عز وجل وهو القائل (أنا جليس من ذكرني)!؟، تخيّل كيف سترى الأشياء في هذه المجالسة، وكيف ستقرأ الصور، وكيف ستكتشف روحك، وكيف ستفهم المشاهد، إذا كان صديقك أحيانا يلهمك الكثير، فكيف إذا كان صاحبك هو الله عز وجلّ؟
فنرى مثلاً أن العصا حينما سأل الله عز وجل عنها سيدنا موسى فقال “هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي” حتى أخبره الله عز وجل بأن العصا التي يظنها فقط كما ذكر إنما هي معجزته، ووسيلته إلى إثبات قدرة الله سبحانه أمام السحرة (فخرّوا ساجدين).
ذلك الإلهام الإلهي هو من يُحدث فارقاً في كل شيء على صعيدَي المكان والزمان على حدّ سواء، وهو الذي يجعلك لا تمر على شجرة نخيل كونها مجرّد شجرة مثمرة، بل هي شجرة مسبّحة ذاكرة مؤنسة تلطفت بالسيدة مريم عليها السلام، لقد كانت بمثابة الأم للسيدة العذراء في مخاضها العسير، فقد ظللتها وأطعمتها وشاركتها بأن تكون شاهدة على ولادة المسيح عليه السلام..
لذلك أرى النخلة أمًّا، لأنّ قلبي هكذا يراها، في لحظة وجودية لا ترتبط بمكان وزمان معينين، كل نخلة تتجلى أمامي في روح الأمومة ..
تعود إلى ذاكرتي صورة سما تلك الطفلة التي درَّستها قبل أيام وقد سمعتها في نهاية الحصّة تحدّث زميلتها في نهار رمضان بأنّها جائعة وتتخيل لو استطاعت أن تدهن خبزة بالشوكولاتة السائلة، ناديتها وقلت لها هل تحبين الشوكولاتة السائلة؟، قالت لي جدا، فسألتها بماذا تذكّرك؟ قالت لي برفّ المطبخ البرتقالي، هنالك صندق تخبئ به أمي الأشياء اللذيذة، كي تمنعنا من الوصول لها بسهولة ثم أردفت قائلة: تعرفين يا مس، وفي ذلك الصندوق تضع مصروفنا، فقلت لها أحببت وصفك الجميل وأحببت ذلك الرفّ وذلك الصندوق حتى باغتتني بقولها لكن بيتنا انقصف كله، ونحن الآن نعيش في خيمة.
لم أرغب أن أتوقف عند الكلمة الأخيرة فقلت لها يعني شوكولاتة الدهن تشبه اللون البرتقالي الذي يتوسده صندوق الأسرار ذلك، فضحكت وهي تقول لي نعم.
دائماً هنالك صورتان، صورة للعين، وصورة للقلب، هنالك صورة تخترق العين إلى القلب وتخلد فيه للأبد، وهنالك صورة تتوقف عند العين وتتلاشى، والإنسان هو في حال تصوير دائم لكل كلمة وموقف ولحظة وتفصيل وحدث، ما يعبر من العين إلى القلب هو الذي لا يُمحَى أبداً