تأملات
بالرغم من أننا نرغب في الإنجاز، إلا أننا نجد أنفسنا في كثير من الأحيان لا نحقق ما نطمح إليه، فما السبب؟ لماذا يصعب علينا أن نكون أكثر إنتاجية في هذا الشهر، رغم أن التركيز -علميًاـ يزداد أثناء الصيام؟
يعلّمنا القرآن الكريم أن رمضان شهر التقوى، لكن العمل في رمضان يجب أن يُنظر إليه من منظور آخر؛ ليس فقط كواجب ضروري، بل كجزء من العبادة. الكثير من الناس يربطون رمضان بالعبادة فقط، بينما العمل، إن كان بهدف مخلص، هو في الأصل عبادة كذلك، فلماذا نستثنيه بشكل تام؟
العمل الذي يُنجز في رمضان، إن كانت نية الشخص فيه صافية لله عز وحل، يتحول إلى عبادة، سواء كان ذلك في مجال العمل أو الدراسة أو خدمة الآخرين. وعن أشرف الخلق ﷺ: “إنما الأعمال بالنيات”.
الأعمال التي تبدو روتينية قد تصبح مليئة بالمعنى في رمضان، فإذا نظرنا إلى عملنا كوسيلة للتعبّد، سنجد أن كل لحظة نحاول فيها تحقيق الإنجاز هي فرصة لمقابلة الله بعمل صالح. لذلك، يمكننا أن ننجز في رمضان، ولكن فقط إذا كانت نوايانا ترتكز على رؤية العمل كجزء من العبادة. لذلك أرى أننا بحاجة إلى تغيير نظرتنا للعمل ليصبح فريضة عظيمة وسبيلًا للقرب من الله.
غالبًا ما يتساءل الناس عن كيفية النجاح في رمضان، خاصة في النهار حين تزداد ساعات الصيام. الحقيقة العلمية تقول أن الصيام له تأثيرات إيجابية على الدماغ، وعندما يبتعد الجسم عن الطعام والشراب لفترة طويلة، يبدأ الدماغ في إعادة تنظيم استخدام الطاقة بطرق أكثر كفاءة. لا تعني هذه العمليات التكيف فقط، بل إنها تعمل أيضًا على تحسين التركيز!
وحسب عدة دراسات قرأتها، وجدت أن الصيام يحسن التركيز على المدى القصير، ويعزز من قدرة الدماغ على مقاومة التشتت. وهكذا، فالصيام، بعكس ما قد يتصور البعض، يُعتبر بمثابة تدريب لدماغنا على تحسين الأداء وزيادة الانتباه، خصوصًا في الفترة التي تسبق الإفطار.
لا أجد أن التحدي الأكبر في رمضان يكمن فقط في مقاومة الجوع والعطش، بل أيضًا في تنظيم الوقت. يمكننا أن نجد أنفسنا مشغولين طوال اليوم دون إنجاز حقيقي. ولكن الحل يكمن في استغلال أفضل وقت في اليوم، وهو الساعات الأولى من الصباح. قبل أن يبدأ الجسم في الشعور بالتعب، تكون الطاقة الذهنية في أعلى مستوياتها. ولذلك، يمكن تخصيص هذه الساعات لتصفية الذهن والعمل على مهام أكثر تركيزًا.
يقول البعض: “الليل نهار الأديب”، والكثير من المبدعين لا بركزون إلا في الفترة المسائية، إذ أن الليل يحمل السكون في طيّاته مما يزيد من التركيز.
يختلف البشر في تفضيلاتهم الزمنية، فبعض الأشخاص يفضلون العمل في الليل، حيث تتوفر لهم مساحة من السكون والهدوء بعيدًا عن ضجيج اليوم.
الدراسات العلمية تؤكد أن الليل يمكن أن يكون الوقت المثالي للبعض للتركيز والإبداع. فالنوم العميق في الليل يعزز من قدرة الدماغ على معالجة المعلومات وتخزينها، مما يزيد من قدرتنا على التفكير بوضوح. هذه الظاهرة، التي تُعرف بـ “حالة التدفق” (Flow State)، تكون أكثر وضوحًا في الساعات المتأخرة من الليل. يجد كثير من الأشخاص أن قدرتهم على إنجاز الأعمال التي تتطلب تفكيرًا مكثفًا تزداد في الليل.
ويمكن أن يكون رمضان ليلاً وقتًا مثاليًا للتواصل مع الذات عبر صلاة التراويح أو قراءة القرآن. هذه اللحظات الروحانية تُساعد على تنقية الذهن وتجديد الطاقات. وقد جرّبت العمل الإبداعي في هذه الفترة ووجدتها نافعة.
عند التأمل في الآيات القرآنية وتدبر معانيها، يمكن للإنسان أن يجد في هذه الكلمات إشراقة للأفكار الجديدة، وحافزًا للعمل الجاد. حالة التأمل والسكينة التي نعيشها في رمضان، خصوصًا أثناء تلاوة القرآن أو الاستماع إليه، تجعلنا أكثر صفاءً ووضوحًا في أفكارنا. فلماذا لا نستغل هذا الصفاء بالإنجاز كذلك؟
القرآن ليس مجرد كتاب للعبادة، بل هو دعوة للتفكر والعمل. في رمضان، كل لحظة من التأمل قد تُفتح فيها أبواب جديدة من الإبداع، حيث أن الصفاء الذهني يُساعد في توليد الأفكار. ربما نجد أن تلك اللحظات التي نعكف فيها على القرآن هي أكثر أوقاتنا قدرة على العطاء الفكري، وليس العكس كما يظن البعض!
لننظر إلى رمضان على أنه فرصة لخلق التوازن بين الروح والجسد، بين العبادة والعمل، وبين الراحة والإنتاجية. باختيارنا للنوايا الطيبة، واستخدامنا للمعلومات العلمية حول كيف يعمل دماغنا في رمضان، سنكتشف أن هذا الشهر هو أكثر من مجرد اختبار للقدرة على الصيام؛ إنه فرصة لنحقق ما نطمح إليه من الإنجاز أخيرًا، فهل سنستفيد من هذه الفرصة؟